الأخلاق والطلب
لو نظرنا إلى سيرة كثير من أبطال التاريخ وعظمائه لوجدنا أن إنجازاتهم وعظمتهم لم تأت غالبا من فراغ، بل كان وراءها تعب وإرهاق ومواجهة الموت غرقا أو تجمدا أو حتى نتيجة قرصة حشرة سامة، أو قتلا في ميدان المعركة. وبذل هؤلاء وغيرهم كثيرا لتخليد أسمائهم أو منح أوطانهم مجدا، أو سعوا لتقديم شيء ينفع البشرية للأبد! وبالتالي لا يأتي شيء عظيم وكبير بسهولة. وبالرغم من عظمة منجزات هؤلاء في قهر القمم الشاهقة، وشق عباب المحيطات، والسفر لأشهر لاكتشاف أرض او ممر مائي، أو البحث عن منابع الانهار، وغير ذلك من منجزات طبية ومختبرية محفوفة بكل أنواع المخاطر، سواء لاكتشاف دواء أو استنباط مصل، إلا ان أصعب ما يواجه هؤلاء في حياتهم، وغيرهم، هو الانتصار في ميدان تربية الأبناء، فهنا يكمن التحدي والامتحان الأعظم والأخطر والأكثر صعوبة في حياة اي فرد. فعملية تربية الطفل طويلة ومستمرة، وتمتد أحيانا لعشرين سنة، إضافة إلى أنها مرهقة ومكلفة لمن يريد ان يخلق من ابنته او ابنه شيئا، أو على الأقل طفلا أقل اذى من غيره! فالتربية الصحيحة تتطلب التضحية بأشياء كثيرة، من تكوين صداقات أو الاحتفاظ بها، السهر مع الخلان، واللهو مع الأحباب والسفر مع الأصحاب، واختيار البقاء بجانب الطفل. كما لا يمكن أن نمارس ما نشاء من عادات سيئة والافتراض ان مجرد نصيحتنا له كافية، فمن لا يريد مثلا لابنه أن يكون مدخنا، عليه «التضحية» والصراع من أجل أن يمتنع هو عن التدخين. والشيء ذاته يمتد إلى المخدرات والمسكرات والكذب، حتى ما يسمى بالأبيض، والالتزام بقواعد السير، والتحرك بأدب، لأننا لا يمكن أن نكون قدوة لهم ومثالا يحتذى إن لم نكن مثاليين في أعين ابنائنا، وهذا ليس سهلا في الغالب، فأحيانا ننسى أنفسنا، ونطلب من ابنائنا عندما يردون على الهاتف أن يخبروا المتصل بأننا خارج البيت أو مستغرقون في النوم، ثم نأتي بعدها ونلقي «عظة الأحد» عليهم في مساوئ الكذب!
إن التربية الصحيحة، والتي يمكن من خلالها خلق جيل تبدأ من البيت من خلال التزام الوالدين بالخلق الحسن والبعد عن الكذب وجعل احترام المواعيد في عيون الأبناء أمرا مقدسا، وتربيتهم على الأمانة في أداء العمل المطلوب القيام به، والحضور للعمل والخروج منه في الساعات المحددة، والالتزام بالقول، وبقوانين البلاد. والغريب أن من يدعون الالتزام الديني من اعضاء مجلس الأمة وغيرهم لا يخرج صوتهم للحث على أي من هذه الأمور أو مهاجمة مختلسي المال العام أو مزوّري الشهادات الدراسية، والمتاجرين بالإقامات، ويفضلون على ذلك، بناء على سقيم افكارهم التركيز على مضار لبس المايوهات على الشواطئ، أو مخاطر تناول المشروبات على الجزر وكوارث حفلات الفنادق، ومصائب منع الاختلاط في الجامعة، فهذه هي «مكارم» الأخلاق في حكمهم ونظرهم، وعليك تخيل مستوى أخلاق شعوبنا، إن كان هؤلاء مشرعينا!