حلم أبو عبدالوهاب
لا أميل كثيرا للقيام بواجب تقديم العزاء! ولو لم يسمَّ واجبا لما قمت به أصلا. وربما تكون عملية كتابة رثاء في فقيد، أكثر صعوبة من حضور العزاء شخصيا والتمتمة ببضع كلمات، والخروج والسلام! فالعزاء الكتابي، خاصة إن كان كاتبه غير ميّال للمبالغة، صعب، ولكن أثره يبقى لفترة أطول.
الحادث المؤسف والمحزن جدا الذي تعرّض له ابن صديق وحفيد صديق كريم آخر، هزّني من الأعماق، خاصة أن حادثة أليمة مماثلة حصلت للجد قبلها ببضع سنوات، وأذكر جيدا أنها أبكتني وقتها كثيرا. كما هزّت الحادثة الأخيرة قارئة عزيزة، فكتبت النص التالي، الذي تصرفت فيه قليلا، لكي يفي بالغرض، وأنشره، لعله يغفر لي عدم اتصالي بالصديق وصهره، في فترة العزاء، لظروف خاصة!
* * *
دخل الوالد غرفة ابنه البكر، وهو يمشي على أطراف أصابعه، وكأنه لا يود أن يقلق نومه العميق بعد يوم مرهق طويل. وما ان بلغ منتصف الغرفة، حتى شعر بأنه غير قادر على كتم شهقة عميقة صدرت منه، تبعها بكاء مر! وهنا ارتمى على فراش فلذة كبده الذي فارقه مبكرا، وهو لا يزال في مقتبل العمر، ولثم مخدته واشتم رائحته الطيبة المميزة، والكولونيا الخاصة التي كان يفضّلها، والتي كانت آثارها لا تزال عالقة بأطراف الشرشف.
أجهش في بكاء صامت، ولم يشعر بالوقت يمر، ولم يعرف كم بقي في تلك الغرفة التي لن يملأها الدفء ثانية، ولكنه كان على يقين بأن قدميه لن تطآها مرة أخرى. أدار نظره في محتويات الحجرة الجميلة، وفي كل شيء كانت عينا فقيده الصغير تقعان عليه صباح كل يوم عندما يصحو من نومه، وعندما كان يسكنها بجسده وروحه. هنا أشياؤه الصغيرة، وهناك أغراضه الخاصة تملأ أدراج خزائنه. وصوره الجميلة، بابتسامته الأخاذة، تغطي حوائط الغرفة، هذه واحدة وهو بملابسه الرياضية، يحتفل مع أصدقائه بمناسبة ما، وثانية يقف بجواره على ساحل المالديف، وثالثة على ظهر قاربهم الكبير، ورابعة مع بقية أفراد أسرتهم الصغيرة والجميلة! وهنا مضرب التنس الخاص به، والذي لم يستخدمه كثيرا، وهناك سماعات جهاز الموسيقى، وكمبيوتره المحمول. إن كل ما في تلك الغرفة أصبح حزينا يشتاق إلى صاحبه، فكيف بشوقه هو لابنه الشاب البريء الذي كان يملأ دنياه ودنيا جده وجدته ووالدته فرحا من حوله.
اجال نظره ثانية في الصور الفوتوغرافية التي تظهره مع ابنه الحبيب على شرفة فندق، أو خلف مجداف قارب، وأخذ يفكر بأنه إن عاد إليه فسيبحر معه بعيدا، بعيدا جدا، ليبقوا معا الى الأبد. آه.. كم يتمنى لو تتاح له فرصة ضمه إلى صدره للمرة الأخيرة، لمرة فقط، لكي لا يتركه يغادر ذراعيه، بعد أن يدخل جسده بين ضلوعه. وأخذ يسأل نفسه: يا ترى هل ستعود الابتسامة لوجهي؟ وهل سينسيني الزمن أعز من كان معي وتركني ورحل؟ وهل سيعود أصدقائي ليقولوا لي أين ضحكتك يا أبو عبدالوهاب، التي كانت تغرد معها عيناك؟ إن العيون لا تبتسم، ولكنهم كانوا يقولون إن عيوني تبتسم!
من أجل ابنه الحبيب سيحاول أن ينسى، قد يتطلب الأمر بعضا من الوقت، وقد يطول هذا الوقت، ولكن من أجل ابنه سيحاول أن ينسى، فهو لا شك في مكان ما يغرّد مع أقرانه، فقد رحل صغيرا وبريئا وليس في عنقه دين لأحد، أو في ذمته وعد لم يفِ به، أو في باله عداوة لم ينسها.