جيل طيب الأعراق
ربما لم يكرر شعب، كالعرب، ما قاله الشاعر المصري حافظ إبراهيم في بيت شعره، أو ما يشابه ذلك في اللغات الأخرى:
«الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طيب الأعراق»!
ولم نكتف بترداد البيت في كل مدرسة ومناسبة، بل سعينا لأن نجعل من المرأة كيانا مسحوقا وشخصية قليلة المعرفة بحرمانها من تنسم الحرية ومن تلقي المعرفة، وبالتالي افقدناها الكرامة عنوة، والنتيجة ما نشاهده اليوم من تخلف ودمار وحرق وقتل وتنكيل على أيدي من ربتهم، أولئك النسوة العاجزات! فالمرأة لم تكن يوما، لدى الغالبية الساحقة من شعوبنا، العربية والإسلامية غير عورة، حتى أن الكثير من الشعوب الإسلامية تطلق عليها «أورت»، المشتقة من العورة! كما أن ما نواجهه يوميا من مظاهر التخلف في كل مجال، وما نراه من حروب أهلية، وما نكتوي به من حرائق طائفية وجرائم إرهابية في العشرات من دولنا ما هو، وإن بطريقة غير مباشرة، إلا نتيجة لسوء إعدادنا للمرأة الأم، وعدم اهتمامنا بحاجاتها الإنسانية وحقوقها البشرية، وغلق الأبواب عليها، ومطالبتها بعد كل ذلك بأن تعد شعبا طيب الأعراق! فلو بحثنا في خلفيات أسر كل هذه الجيوش الصغيرة من الإرهابيين، وآلاف الشباب المستعدين لتفجير أنفسهم في مساجد غيرهم، والموت في سبيل أوهامهم، لما وجدنا غير أسر بأم غائبة أو مغيبة، لا تفقه من الدنيا شيئا بعد أن حرمها الزوج أو الأب أو الأخ من أبسط حقوقها، انسجاما مع خائب مفاهيمهم! وبالتالي ما نراه اليوم هو حصاد التربية الغائبة، والقدوة البائسة ونظم التعليم المتخلفة. فمجتمع يرفض حتى خروج المرأة من البيت، لغير بيت زوجها أو القبر، مجتمع لا يمكن أن يخرج غير الإرهاب والخراب. فأبو قتادة وأبو سلام وأبو حمزة وقادة جبهة النصرة ومن على شاكلتهم هم نتاج التربية الفاشلة، بغياب الأم أو بحضورها، تلك المحرومة من أبسط حقوقها، والعاجزة بالتالي عن أن تعطي لغيرها ما تفتقده.
تسرد الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان في سيرتها الذاتية «رحلة جبلية رحلة صعبة»، ما عانته، وهي في مقتبل العمر، من ظلم الأب وعجز الأم وقسوة الأخ، وكيف فرضت عليها الإقامة الجبرية، وهي في سن المراهقة، وكيف منعت من الخروج من البيت، وحرمت من المدرسة، أو لقاء أحد واقتصر عملها، وهي بنت العائلة المعروفة، المملوءة أملا وشغفا بالحياة، على خدمة إخوتها الذكور والعمل شبه خادمة في البيت، مجبرة على تناسي أحلامها كإنسانة، وأن هذا الحظر وتلك العزلة حطماها ودفعاها مرات للتفكير في التخلص من حياتها، بعد ان اصبحت تخجل من نفسها وتسير مطأطأة الرأس من الذل، فقد كانت تعامل من ابيها وكأنها غير موجودة، فهو لا يخاطبها بل يطلب من امها أن تطلب من «البنت» أن تفعل كذا وكذا! ولولا أن انتبه لها أخوها الشاعر إبراهيم طوقان ورعاها في مرحلة شبه متأخرة، لما سمع العالم بها، وكل ذلك لأنها تجرأت يوما، وهي مراهقة صغيرة ان تحادث صبيا في مثل عمرها، فكان الشك والحرمان والحبس! حدث هذا في نابلس الفلسطينية في ثلاثينات واربعينات القرن الماضي، فكيف كان حال غيرها من مدننا وقرانا العربية الغارقة في الظلام منذ قرون وقرون؟