خراب البوسنة وليس البصرة
يقول المثل الصيني، أو العالمي، لا تطعمني سمكة، بل علمني كيف أصطادها!
مرت ثلاثة عقود أو أكثر على بدء الجمعيات، المسماة بالخيرية، وبالذات السعودية والكويتية، بنقل أنشطتها «الخيرية» إلى الخارج. وتزامن هذا النقل مع زيادة أموال شراء الأجر، وتنامي عدد هذه الجمعيات التي نمت كالفطر البري. وقد اختار غالبية مجالس إداراتها العمل الدعوي والخيري في الخارج بحجة قلة من هم بحاجة لمساعداتها داخليا، ووجود حاجة أكبر في الخارج، وبالذات في الدول الإسلامية الفقيرة. ولكن، كما هو معروف، فإن ضعف الرقابة على هذه الأنشطة، أو انعدامها، شجع نفوسا مريضة كثيرة على التلاعب بأموال تلك الجمعيات وتحقيق الملايين لأنفسهم، وسبق أن فضحنا الكثيرين منهم على مدى عشرين عاما. وبالتالي يمكن القول ان السبب الأهم وراء نقل الأنشطة للخارج هو صعوبة المتابعة والتحقق مما تدعي معظم تلك الجمعيات إنجازه، فلا مجال لمعرفة كم بئرا حفرت او كتابا طبعت أو مسجدا بنت! علما بأن غالبية هذه الأنشطة لا معنى ولا مردود حقيقيا فعالا لها على من قدمت لهم، فالمسألة لا تتعلق بحفر بئر، بل بتعليمه بكيفية حفرها وتوزيع مياهها، وتشغيل الآخرين بمشاريعها، ولكن الجماعة لم يهتموا يوما لا ببناء المصانع ولا بتوفير الوظائف والأعمال لملايين العاطلين عن العمل! وبالتالي فإن ما نراه اليوم من اضطراب امني وهيجان شعبي في البوسنة مثلا، هذا غير بقية بؤر الاضطراب الإسلامية الأخرى، سببه فشل هذه الجمعيات المسماة بالخيرية، وضياع ما انفقته وحكوماتها من مئات الملايين في خلق فرص عمل حقيقية، فقد ضاع ما لم يسرق من تلك الأموال!
وبعد وقوع الاضطرابات الأمنية الأخيرة في مدن البوسنة، والتي من المنتظر أن تتسع وتشتعل أكثر، قام دبلوماسي كويتي، سابق، بالاتصال بي ليخبرني أنه قام اثناء عمله بإرسال عشرات التقارير لحكومته يحذرها من زيادة وتيرة قدوم بعض «رجال الجمعيات الدينية» المؤدلجين لدول البلقان، وخطورة أنشطتهم الدعوية، وصرفهم أموالا طائلة على الدعوة لأفكارهم الدينية، بدل مساعدة المسلمين وبناء المشاريع لهم. وقال انه اكتشف أن غالبية من قدم لتلك المنطقة من الخليجيين، كانوا غير مخلصين في عملهم، واستثمر البعض أموال جمعياتهم لمصالحهم الخاصة، ومنها مشروع إسكاني تعرض مؤخرا لانزلاقات ارضية خطيرة. وقال ان تبرعات بناء دور العبادة لن تجدي نفعا، فهي هدر للأموال هناك، ولا تصب في مصلحة غير من قام ببنائها، وان من الأجدى التركيز على المشاريع الصغيرة وخلق فرص عمل لأبناء المسلمين!
ولكن، كالعادة، لا حياة لمن تنادي، فلا الجمعيات تود سماع مثل هذا الكلام المنطقي والتحذير الخطير، ولا الخارجية بقادرة على فرض آرائها على الجمعيات، وبالتالي ستتعرض تلك المنطقة لأخطار جديدة، وستعود الأوضاع فيها لنقطة الصفر، لتبدأ مرحلة نصب واحتيال أخرى