الحديدي الجميل (1 ـ2)
يفترض أنني تجاوزت السبعين، وحتى سنين قليلة مضت كان بلوغ هذا العمر يعني الكهولة، وما يصاحب ذلك من أعراض نسيان وتعب، وتناول أدوية وقلة الحركة، والسعال، وما يتبع السعال من أصوات، هذا غير الاضطرار الى النوم المبكر، وإطفاء مصابيح الكهرباء ليس من منطلق الرومانسية، بل لتوفير الكهرباء.. ولكن الدنيا تغيّرت اليوم!
ولدت بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وانطفأ سعير نارها، الذي حصد أرواح عشرات ملايين البشر. وعلى الرغم من اننا كنا في قرن الحضارة والتقدم التكنولوجي، فان الكويت كانت تشكو من فقر مدقع بعد انهيار اسعار اللؤلؤ. كما لم تعرف المياه الباردة طريقها الى جوفنا حينها، الطرق المعبدة كانت نادرة، والمستشفيات شبه معدومة.. والطب والتعليم بدائيان، والكهرباء شحيحة والأمراض منتشرة وبعضها استوطن صدور وعيون الكثيرين. ووقتها كان الذباب يملأ الشوارع والبيوت، خاصة في الصيف، وكان دوره في نقل الأمراض كبيرا، وكانت الحكومة تكافحه برش مادة ddt من سيارات جيب في الأحياء والأسواق، وكنا نتسلى بملاحقتها والغياب في أدخنتها البيضاء، ونحن نلهث ونملأ صدورها بسائل تلك المادة شبه السامة، ولا أدري لماذا لم نمت بعدها من كل ذلك الكم الكبير الذي استنشقناه منها؟!
لم يكن التكييف معروفا، ولك أن تتخيل معاناة النوم ظهرا وفي ساعات الصيف الرطبة والحارة. كنا نلجأ صيفا الى النوم على السطح، أو تحت مراوح يلفح هواؤها الحار وجوهنا وكأنه صادر عن فرن. وكنا نكافح لهيب الحر بالهرب إلى البحر، والاستلقاء تحت الظل وعلى الرمال الباردة، خاصة ليلا. او تبليل الإزار، والتمتع بالبرودة الناتجة عن تبخّر المياه منه.
نعم كانت ايام صعبة، وحتى ما كان فيها من حلاوة أحيانا، كانت ممزوجة بكثير من المرارة، فالطعام كان متواضعا، والفواكه نادرة، والخضار شحيحا.
كما لا تزال آثار خيزرانة «الملا» القاسي القلب، مطبوعة على أعلى كتفي. ولا أزال أتذكر كيف كنا غالبا ما ننسى نعالنا على رمال الشاطئ، أو تضيع منا، لنعود للبيت حفاة، بعد أن نغطي أقدامنا بأكياس الورق لكي تقيها من لهيب الطريق والرمال الساخنة. نعم كانت الحياة قاسية، وكانت الرطوبة تبلغ أحيانا درجات لا تطاق، وتبلغ «التراجيديا الكويتية» قمتها عندما نضطر، في كل ذلك الحر والرطوبة، الى اللجوء الى قضاء حاجتك في حمام عمومي، لا يمكن وصفه!
في تلك الأيام، لا بل قبلها بخمسة وعشرين عاما تقريبا، طرأت على بال الشيخين الجليلين، المرحوم احمد الجابر والمرحوم عبدالله السالم فكرة استقدام اطباء عرب لتقديم الخدمة الطبية، التي كانت حتى اربعينات القرن الماضي تقدم من خلال مستشفى الإرسالية الأميركية، وتم بالفعل، بجهود شخصيات سياسية سورية معروفة، إقناع ابن اسرة دمشقية مرفهة لأن يأتي الى الكويت للعمل فيها، والتي وصل اليها عام 1940، اي قبل 76 عاما، عن طريق البر، وبمشقة كبيرة بسبب وعورة الطريق غير المعبّد، وحرارة أغسطس الحارقة! وكانت تلك بداية اول طبيب عربي في الكويت.
.. وإلى مقال الغد.
أحمد الصراف