أم كلثوم واليهودي البريطاني
تطلب عملي، كدكتورة، زيارة مريض مسن وعاجز في منزله. تبين من سجله الطبي أنه مصاب بالسرطان، ولا أمل في شفائه، ويعيش على المسكنات، بعد أن رفض كل أنواع الرعاية، وفضل البقاء في بيته. حين وصلت، أدخلت الرقم السري المعروف لدينا من ضمن السجلات، لفتح باب البيت، وكانت كلبته بانتظاري. لم يصدر عنها صوت ولكنها كانت تستنجد بي أن اساعد صاحبها. مشيتُ نحو غرفته، فوجدته مستلقيا على فراشه، والوضع من حوله يرثى له، فالسجاد ملطخ، والرسائل والجرائد المبعثرة في كل مكان، حتى طعام كلبته مرمي هنا وهناك. كان البيت باردا وكئيبا، والمدفأة يغطيها التراب، والأدوية المسكنة للألم مبعثرة على الأرض، وأعتقد أنها كانت تسقط من يديه المرتعشتين.
من بين كل تلك الفوضى لفت انتباهي صورة لأم كلثوم معلقة على الحائط، وكأس نبيذٍ نصف ممتلئة على الطاولة. نظر إلي المريض وسألني إن كنت عربية، فقلت له نعم، عراقية. فقال: هل تعرفين من هذه؟ وأشار إلى صورة ام كلثوم. قلت: بالطبع اعرف.
قال: ما اسمها؟ قلت: كيف تعلق صورة دون أن تعرف لمن؟
فقال: زوجتي هي التي علقت صورتها، كانت تحبها كثيرا، هي عراقية مثلك. اضطرت عائلتها لترك العراق، لأنهم يهود، ولكن لأنهم كانوا ضد مبدأ اغتصاب الأرض رفضوا العيش في إسرائيل، ولجأوا إلى بريطانيا. والتقيت بها أنا اليهودي البريطاني في المعبد، وأحببتها، ووعدتها أن أعود بها إلى العراق لتعيش هناك، ولكني لم أجرؤ على المجازفة، وهي لم تتوقف عن حلم العودة، وعن سماع أغنية لأم كلثوم، كل يوم، على مدى أربعين عاما!
سألته إن كان يعرف الأغنية؟ فقال لا، ولكن زوجته، حسيبة، قالت له إنها تعني «هل سألتقيك غداً؟»، ففهمت أنه يقصد أغنية «أغداً القاك». وعندما عرف أنني أعرفها توسل أن أسمعها له، حيث قال إن حسيبة كانت تسمعها وتهديها لـ «العراق» وإنه يريد أن يسمعها ويهديها لها.
عدت للعيادة واسمعته الأغنية من خلال هاتفه الأرضي، وعدتُ له في اليوم التالي فشكرني وقال: انت أفضل مني، حققت أمنية انسان على وشك الموت، أما أنا فلم أحقق أمنية زوجتي قبل أن تموت.
وتستطرد الدكتورة علياء الكندي قائلة إنها من يومها وهي تستمع لام كلثوم كل يوم تغني «أغداً القاك»، لعلها تكون أوفر حظّاً من حسيبة، وتلتقي بـ «العراق» يوما!
انتهت قصة علياء، بتصرف. أما الأغنية فهي من كلمات السوداني الكبير الهادي آدم، وألحان عبدالوهاب، وتعود الى العام 1971، وتقول بدايتها: أغدا ألقاك؟ يا خوف فؤادي من غدي يالشوقي واحتراقي في انتظار الموعد. آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه اقترابا، كنت أستدنيه لكن هبتهُ لما أهابَ، وأهلت فرحة القرب به حين استجابَ، هكذا احتمل العمر نعيماً وعذابا مهجة حرى وقلباً مسه الشوق فذابَ، أغداً ألقاك؟
قرأت تلك القصة، وشعرت بالحزن وأخذت أفكر، ربما للمرة الألف، في كل هذا العداء والحقد الذي أصبحنا نكنه بعضنا لبعض، وكيف سمحنا للمتشددين، من رعاع ودعاة وغيرهم، لأن يجرفونا بتطرفهم، ويجعلونا نكره كل من ليس من ديننا او طائفتنا، ويقنعونا أنهم هم فقط، من بين أكثر من سبعة مليارات من البشر، على حق، والباقي على باطل وسيذهب للنار، وبئس القرار!
أحمد الصراف