التدخين من على كرسي الرئاسة
بسبب خطأ غير مقصود تأخرت عن موعد نظر قضيتي أمام القاضي، ولكن المحامية القديرة، عدوية الدغيشم، الموكلة بالدفاع عني في قضية صحافة تتطلب مثولي شخصيا أمام القاضي، أقنعته بالاستماع لأقوالي، في غرفة المداولة، بعد انتهاء الجلسة.
انتظرت في قاعة المحكمة قرابة نصف ساعة، بانتظار استدعائي من قبل القاضي. أثناء ذلك جلست في الصالة المكتظة بالجمهور، وغالبيتهم متهمون بمختلف القضايا، والبعض منهم وقوف في قفص الاتهام الحديدي.
لاحظت أن شرطيا مكلفا بحفظ الأمن في القاعة يضع سيجارة في فمه، دون أن يشعلها، وهو يتمشى على المنصة العالية التي يجلس عليها القضاة. وفجأة جلس في كرسي رئيس المحكمة وأشعل سيجارة وبدأ بتدخينها علنا، وفي المكان الخطأ، هكذا وبكل استهتار.
نظرت حولي لعلي أرى من لفت المنظر انتباهه، وما شكله من مخالفة وقحة من رجل أمن، إلا أنني لم ألاحظ شيئا، فقمت من مكاني واتجهت للمنصة، ببدلتي التي لا تدل على جنسيتي، وخاطبت الشرطي قائلا: إن ما يقوم به مخالف للقانون، وهو الشخص المنوط به مهمة منع الغير من التعدي عليه، والعبث به. فأخذته العزة بالإثم ورفع صوته ينهرني عن التدخل فيما لا يعنيني، وأن علي احترامه، كرجل أمن، أمام كل السجناء والمتهمين وبقية الحضور! أثارتني ردة فعله، ولكني احترمت نفسي، ولم أرد على استفزازه، بل طالبته بترك مقعد رئيس الجلسة، والخروج للتدخين في الغرفة الزجاجية المخصصة للمدخنين، خارج القاعة، التي تحتوي على لوحة كبيرة تتضمن بنود قانون منع التدخين، ومواد العقوبة.
أطفأ الشرطي سيجارته تحت كرسي القاضي، ولم يعجبه كلامي، ولكنني لم أعبأ به، فخطؤه كان واضحا. وقمت بسؤاله عن اسمه، وأرسلته بالواتس اب إلى ضابط أمن كبير في «الداخلية» مع تفاصيل عن الحادثة، ولا أدري ما حدث له بعدها، فقد أرضيت ضميري وقمت بواجبي كمواطن.
الطريف، أو المؤلم، أن البعض شكرني على موقفي بعدها، والبعض الآخر مدح شجاعتي، ولا أدري إن كان في الأمر شجاعة، ولكنني شعرت بالحزن لغياب حسّ المسؤولية لدى الكثيرين، الذين أصبحوا غير مبالين، بحيث يتصرفون بسلبية واضحة أمام الكثير من المخالفات، وحتى الجرائم، ولا يحركون ساكنا، وكأن الأمر لا يعنيهم، أو كأن ما يحدث يقع في دولة معادية، وليس وطنا نستظل به جميعا. ولكن يبدو أننا لا نريد من هذا الوطن إلا المزيد من المال والكهرباء الرخيصة والمواد الغذائية المدعومة والرواتب الخيالية، دون أداء عمل حقيقي. وإن أردنا أن نبين حبنا له رفعنا علمه على بيوتنا وزينا به سياراتنا، وتغنينا، مع جوقة المطربين، بحبه، ثم لا شيء أكثر من ذلك!
إن هذه اللامبالاة تُسأل عنها الحكومة التي رسخت، بسكوتها عن الجرائم الصغيرة والكبيرة، في ذهن المواطن، أن محاربة المخالفات وتصيد المجرمين، والإبلاغ عن الجرائم والانتهاكات ليست من مسؤوليته، كمواطن، بل مسؤولية الحكومة، وما عليه هو إلا الاستمتاع بالرحلة، وترك كل شيء لماما الحكومة.
أحمد الصراف