انتشرت على وسائل التواصل قصة، وصفها آخر من قام بكتابتها ونشرها، بالإنسانية والرائعة، وعدها آخرون شيئا أكثر من ذلك، ورويت من الكثيرين، بأكثر من طريقة، وهذه إحداها، بتصرف:
يقول الكاتب «الجهبذ»: دخلتُ مقهى في مدينة البندقية الإيطالية، وطلبت كوباً من القهوة. وأخذت كعادتي أراقب الرواد الذين كان يعج بهم المكان، ولا يقطع أحاديثهم إلا قرع الجرس المعلق على الباب وهو يُعلن عن دخول أحدهم أو خروج إحداهن. ومع وصولي لنصف كوب القهوة، دخل رجل المكان وسحب مقعداً بجوار طاولتي، فذهب له النادل عارضا خدماته، فقال له الزبون: لو سمحت أحضر لي كوباً من القهوة، وكوباً آخر على الحائط.
اندهشت من طلبه، وتساءلت بيني وبين نفسي عن قصده بـ «كوب قهوة على الحائط»! ولم أجد غير الانتظار والترقب لمعرفة السر. بعد لحظات جاء النادل وفي يده كوب قهوة واحد فقط قدمه للزبون، ثم أخرج ورقة صغيرة وكتب عليها شيئا، وتحرك نحو حائط محدد من المقهى، وألصق عليه الورقة، وانصرف تاركاً علامات استفهام تتراقص على رأسي. بعدها بدقائق معدودة دخل ثلاثة وتكرر المشهد ذاته بأن طلبوا ثلاثة أكواب قهوة وزادوا عليها بكوبين على الحائط، وتكرر من النادل التصرف ذاته، بأن ألصق ورقتين على الحائط ذاته، بعد أن كتب على كل ورقة عبارة «كوب قهوة»!
زاد فضولي أكثر، وأصررت على معرفة الحقيقة.
ما هي إلا دقائق حتى دخل زبون آخر رث الملبس إلى حدٍ ما، فجلس بالجوار فأتاه النادل، فقال له الزبون بهدوء: كوب قهوة من على الحائط.
فذهب هذا، وعاد بكوب قهوة ووضعه على طاولة الزبون، ومن ثم اتجه صوب الحائط وانتزع إحدى الأوراق الملصقة عليه. وهنا عرفت السر، والفكرة الرائعة ودماثة خلق من فكر بها. إنه، يا سادة، التكافل الاجتماعي، وبطريقة مهذبة جداً ومحترمة ومكتظة بالذوق، وهي طريقة تضمن لمن ليس لديه ثمن كوب قهوة من الفقراء أن يطلبه من دون حرجٍ وبهدوء لا يخدش كبرياءه ولا يبعثر كرامته، وفي الوقت ذاته تعطي للمقتدر فرصة التصدق بثمن كوب قهوة من دون التأثر ببؤس نظرات الفقير والمحتاج.
ويستمر (كل من كتبوا مثل هذا النص) في تساؤلاتهم: كم من حائط في مطاعمنا، ومقاصف مدارسنا بحاجة إلى تفعيل هذه الفكرة الرائعة «ذات الجوهر الإسلامي العتيق»، والحلول الأوروبية المعاصرة؟
قرأت هذه القصة قبل أكثر من أربع سنوات. وتصادف أن سافرت بعدها بفترة قصيرة إلى البندقية، ضيفا على طبيب بندقي شهير، والمقترن بسيدة كويتية رائعة الخلق والجمال. وهناك ذكرت له قصة المقهى، وطلبت زيارته، فضحك من سذاجتي، وقال إنه ابن المدينة ويعرفها ويعرف أهلها جيدا، وانها مختلقة من أولها إلى آخرها، وانه ليس هناك مقهى يقدم قهوة مجانية في العالم اجمع، وفي مدينة البندقية بالذات، التي يشتهر اهلها ببخلهم!
والآن، هل عرفتم كم تزخر وسائل التواصل بالأكاذيب؟

أحمد الصراف