نحن.. وكوريا!

قمت بزيارة سيئول، عاصمة كوريا الجنوبية، قبل سنوات، واتسمت وقتها بالكثير من الاندهاش المشوب بالإعجاب، وأنا أشاهد ثقافة جديدة ودولة ناهضة وشعباً حياً، فطالما أثار النموذج الكوري إعجابي لأسباب يصعب حصرها في هذا المجال الضيق. وعلى الرغم من الاختلاف الشديد بين الشعبين الكوري والعربي، فإنهما يتشابهان في تعرضهما لتاريخ طويل من الاستعمار، طال أمد بعضه لقرون، وأذلهما، ومع هذا لم يؤثر ذلك الاستعمار وإرثه في كوريا، أو غيرها من شعوب العالم كالهند وسنغافورة مثلاً، أما عندنا فقد علقنا على «مشجب تلك المرحلة»، طوال نصف القرن الماضي، كل أسباب تخلفنا وهوان حالنا وسوء منقلبنا.
انفصلت كوريا إلى دولتين عام 1948، نتيجة حرب أهلية، وقفت فيها أميركا مع الشطر الجنوبي، الذي تبلغ مساحته اليوم 100 ألف كلم2 تقريباً، وسكانه 52 مليون نسمة، بينما وقف السوفيت، حينها، مع الشطر الشمالي، الأصغر مساحة والأقل سكاناً، ولكن الفارق بين الدولتين تطور مع الوقت ليصبح ظاهرة، بعد أن أصبحت الجنوبية من أكثر دول العالم تقدماً وإنتاجاً لكل شيء، ولتصبح الشمالية الأكثر تخلفاً، وبحاجة إلى كل شيء.
عرفت كوريا، وتحت الحكم الاستبدادي لحكومة سنگمان ري، ثم القيادة الدكتاتورية لباك تشونغ هي، تطوراً اقتصادياً سريعاً، ساهم الأميركيون فيه بالقسط الأكبر، وحققت تقدماً بالرغم من كل الاضطرابات السياسية، التي تعرضت لها طوال سنوات، لكن جميعها انتهت، بفضل حيوية الشعب الكوري، ليستقر النظام فيها، بعد التخلص من النظام الدكتاتوري، واتباع الديموقراطية نهجاً.
يبدأ التاريخ الكوري القديم مع اتحاد ممالك كوريا الثلاث قبل 1500 عام تقريباً، حيث نمت فيها الثقافة البوذية وازدهرت الفنون، وتم تشجيع الشعر والغناء، لكن تطورها توقف مع الغزو المنغولي لها، في القرن الثالث عشر، الذي بقي حتى انهيار الإمبراطورية المنغولية مع نهاية القرن الرابع عشر.
غزا اليابانيون كوريا، لكن تم صدهم، وبفضل ما تلقوه من مساعدة صينية. وبعد سلسلة أخرى من الحروب ضد منشوريا، شهد حكم أسرة جوسون فترة ما يقرب من 200 عام من السلام، ازدهرت فيه أوضاع كوريا، وحققت تقدماً واضحاً. وخلال القرن الـ19، وبالرغم من سياسة الانعزال التي اتبعتها كوريا، ضد القوى الإمبريالية الغربية، فإنها اضطرت في النهاية إلى فتح أبوابها للتجارة الحرة. وبعد الحرب الصينية اليابانية الأولى، والحرب الروسية اليابانية، احتلت اليابان كوريا من عام 1910 وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، واستسلام اليابان، وهنا قام السوفيت والأميركيون بتقاسم كوريا.
تحولت كوريا الجنوبية من دولة هامشية متخلفة، لتصبح جمهورية رئاسية، ودولة متقدمة ذات مستوى معيشي عالٍ، وتصبح مؤخراً رابع أكبر اقتصاد في آسيا، وواحدة من أكبر اقتصادات العالم بمنتجاتها التقنية العالية في الإلكترونيات، والسيارات، والسفن، والآلات، والبتروكيماويات، والروبوتات، وحدث كل ذلك بالرغم من تعرضها لمختلف أنواع القمع والإهانة، والاستعمار، ومع هذا قامت ونهضت وحققت معدلات نمو وتقدم صناعي وصحي قل نظيره، بحيث وصل معدل عمر المرأة فيها إلى التسعين، وهو الأعلى في العالم أجمع. فهل يمكن أن نتعلم شيئاً من هذا الشعب الصغير والحيوي؟!
لا أعتقد أن لدينا الهمة أو القدرة أو المعرفة، أو حتى النية في التخلي عما نعلم أنه السبب في تخلفنا المريع في كل مجال!
أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top