متى ننكسف..؟!
أتذكر جيداً، عندما كنا صغاراً، درجة الهلع الرهيبة التي كنا نصاب بها، عندما كانت الدنيا تظلم بنا نتيجة حدوث خسوف جزئي للشمس، وانخفاض درجة الحرارة. وكيف كان الأمر يصبح أكثر رعباً عندما تصاحب تلك الظاهرة رياح شديدة. كل ذلك الخوف في أعين وعلى وجوه الكبار، وهرولتهم إلى المساجد للصلاة والدعاء بإزالة الغمة، وقرب يوم القيامة، كل ذلك «الجهل» اختفى مع كبسة زر النور، أو العلم، الذي أزال الغشاوة عن أعيننا، ولتصبح الظاهرة شيئاً نصرف المال لمشاهدتها، ونترقب حدوثها بدلاً من الخوف والهرب منها إلى دور العبادة اتقاء لشرها، والدعاء لزوالها.
في الأسبوع الماضي (21 ــ 8) حدث كسوف كلي للشمس، كان مثار بهجة الكثيرين، فآخر عهد البشر بهذه الظاهرة كان قبل مئة عام تقريباً. ولن نرى كسوفاً كلياً قبل 2024، وحتى ذلك الحين، سيتعارك المسلمون ويختلفون، ويشتم بعضهم بعضاً، ويكفّر الواحد الآخر، سبع مرات، على صحة رؤية هلال رمضان!
وبالعودة إلى كسوف 29 مايو 1919، الذي استمر لست دقائق، وكان يمكن رؤيته في المنطقة من شمال البرازيل وحتى جزيرة برنسبي principe في غينيا الأفريقية، نجد أنه مثّل حينها ظاهرة علمية. فقد قام عالم الفيزياء الإنكليزي أرثر إدينغتون arthur eddington بإقناع حكومته بتمويل محاولته إثبات مدى صحة نظرية «الجاذبية»، التي سبق أن كتب عنها عام 1915 عالم ألماني يهودي صغير السن، يدعى ألبرت آينشتاين، الذي ذكر أن الجاذبية تتسبب في انحناء الفضاء، وأن الأضواء الصادرة من النجوم تنحني متتبعة انحناء الفضاء، وبالتالي فإن كان هناك نجم قريب من الشمس، فإن ضوءه سينحني بالتبعية تأثراً بجاذبية الشمس. وكان الخسوف الكلي الكامل التالي فرصة لإدينغتون للتيقن من صحة نظرية آينشتاين، ولكن الحكومة الإنكليزية نسبت الفضل لمن يحمل الجنسية الألمانية، عدوتها اللدود، فضلاً عن أن إثبات النظرية يمثل تعدياً، أو تعديلاً على نظريات العالم الإنكليزي الفذ إسحاق نيوتن! ولكن إدينغتون سار في مشروعه، فالفرصة لن تتسنى له ثانية.
عندما حل الظلام مع اختفاء الشمس خلف القمر، وظهرت النجوم في سماء الظهيرة، قام إدينغتون بتحديد مكان نجم محدد، يكون عادة مختفياً وراء الشمس. ولكن بما أن جاذبية الشمس تنحني فقد أصبح بالإمكان رؤية النجم، وكأنه في موقع مختلف، كما توقع آينشتاين تماماً، وبالتالي تأكد من دقة كلامه.
إضافة إلى ذلك، مكّنت ظاهرة الكسوف الكلي العلماء من رؤية إكليل الشمس، واعتبر ذلك كشفاً علمياً. والإكليل هو الجزء الخارجي الذي يبقى متوهجاً، بعد أن يغطي القمر الجزء الأوسط والأكبر من قرص الشمس، الذي ليس بالإمكان رؤيته من دون حدوث الكسوف الكلي، فقرص الشمس أكثر لمعاناً بملايين المرات من حدوده أو إكليله الخارجي، وبالكسوف فقط يمكن ملاحظة الحدود الخارجية للشمس، ومعرفة إلى أي مدى يمتد هذا الإكليل في الفضاء، وتأثيراته علينا.
ومن ذلك يمكن القول إن الألماني آينشتاين بنظريته عن النسبية أطاح، أو عدل، في نظريات إسحاق نيوتن، أعظم عالم عرفته البشرية، وكانت تلك بداية شهرة آينشتاين، والفضل في ذلك يعود جزئياً لإصرار إدينغتون.
منذ مئات السنين كل جِمال الغرب العلمية تعارك، وجمل غيده الخبل بارك!