نحن والتطور (1 – 3)
هذا المقال مقتبس من محاضرة لرياض عبد، ألقيت قبل فترة في لندن تعلق موضوعها بنظرية «أصل الأنواع»، التي عارضها من سبق ان عارض كروية الأرض، ورفض استخدام الهاتف، وحرم السينما، والتلفزيون والموسيقى، والتي أصبحت تاليا جميعا من المسلمات في حياتنا، لا بل أصبح معارضوها أكثر استخداما لها. ومن المؤسف ملاحظة أن مقررات الثانوية في تركيا خلت في العالم الحالي من مادة اصل الأنواع، بعد أكثر من نصف قرن من تدريسها.
***
عندما نصاب بمرض نسلم أنفسنا وأجسامنا للعلم، ليقوم الأطباء بتخديرنا وتقطيعنا وتقطيب جروحنا، ولا نتردد في اتباع نصائح الأطباء وتناول ما يصرفونه لنا من أدوية ومن اسلوب معيشة، وكل ذلك دون أن ينتابنا شك أو خوف، تقريبا، لثقتنا في العلم، وتقدمه الكبير. وعندما نسافر لا نتردد، وغالبا دون تفكير، في وضع انفسنا داخل اجساد معدنية، لتطير بنا آلاف الكيلومترات، وخلال الرحلة نسلم انفسنا للعلم، أو لمهارة ملاحي الطائرة، وهكذا الأمر مع آلاف الأمور الأخرى التي نتقبلها لأن العلم يقف خلفها ويدعمها.
من المنطلق نفسه نصدق، دون تردد، ما يقوله العلم عن عمر الآثار التاريخية وقدم الأحافير، وتاريخ الحضارات السابقة، وبعد النجوم والكواكب عنا، وعددها، وتحركاتها، وغير ذلك الكثير.
هذا الإيمان التام بالعلم اصبح قضية مسلم بها، وتقبل من الجميع دون جدال، ولكن ما ان يتعارض هذا العلم، الذي سبق ان آمنا بكامل قدراته في الإجابة عن كل شيء، مع معتقداتنا الدينية، حتى نجد أنفسنا نرفض ما توصل له العلم، الذي سبق أن آمنا بقدرته على تخديرنا وتقطيع أوصالنا وإعادتها لأفضل مما كانت عليه.
منذ أن نشر شارلز دارون كتابه «اصل الأنواع»، قبل 158 عاما، والعالم في صراع معها، دفاعا، نقدا أو رفضا. وهنا يقول رياض عبد في محاضرته، ان دارون أكد أن كل الكائنات الحية التي تسكن كوكبنا قد نشأت وتطورت بفعل عوامل طبيعية عبر ملايين السنين. وأن كل هذه الكائنات لها أصل مشترك من كائنات أبسط بكثير.
وعلى الرغم من أن داروين لم يكن يعلم بعلم الجينات أو الأحماض النووية ولا بكيفية انتقال الصفات من جيل الى جيل، ولم يكن له علم بسلسلة الفصائل البشرية وما قبل البشرية، التي تربط الإنسان بصنف البرايميت، التي تمت معرفتها تاليا، إلا أنه تمكن من الوصول الى استنتاجات أثبت العلم، من خلال دراسات مستفيضة، خلال الـ150 سنة التالية على اكتشافاته، صحتها، مع بعض الاستثناءات القليلة وغير الجوهرية. وعلميا لم تعد هناك حلقات مفقودة تذكر في التاريخ البشري. فهناك نوعان من الأدلة التي تثبت من أين جئنا، الحفريات التي كشفت عن عدد كبير من الفصائل البشرية وما قبل البشرية البدائية والتي عاشت قبل ملايين السنين ثم انقرضت. والجينات والأحماض النووية للإنسان وفصائل البرايميت الأخرى (الشمبانزي والبونوبو والغوريلا). والأدلة من هذين الاتجاهين المستقلين أثبتت، بما لا يقبل الشك، أن الإنسان قد نشأ في أفريقيا قبل حوالي 7 ملايين سنة وأن أقرب سلالة غير بشرية الينا هي الشمبانزي، التي نشترك معها بما يقارب الـ %98 من الجينات. كذلك فإن فصيلتنا البشرية الحالية حديثة ولا يتجاوز عمرها 200 إلى 300 ألف سنة، تمكن خلالها من الخروج من أفريقيا، قبل 60 إلى 80 ألف سنة، والانتشار في قارات الأرض الأخرى، علما بأن %99 من أصناف الكائنات الحية التي نشأت على الأرض قد انقرضت بالكامل ولم يعد لها وجود، دون أن تسنح لها الفرصة لكي تترك وراءها ذرية. أي بمعنى آخر أن %99 من أنواع الكائنات الحية كانت بمنزلة تجارب فاشلة، وأن الكثير من الكائنات، من الأنواع غير المنقرضة، هي كذلك تفشل في التكاثر في بيئتها الأصلية (وهذا ما نعنيه بالانتخاب الطبيعي). وإلى مقال الغد.
أحمد الصراف