((الشعر ديوان العرب))
أحمد الصراف
تعتبر الجزيرة العربية، في مجملها، منطقة صحراوية، عدا بضع مدن وواحات متناثرة هنا وهناك، والتي تأسست غالبا حول الآبار وأماكن تجمع المياه. هذا الشح أو الجفاف انعكس على طبيعة سكان المنطقة، وعلى طريقة حياتهم، فمالوا أكثر للخشونة، وأصبح كسب العيش لا يتم بالصناعة أو الزراعة أو أية أعمال يدوية أخرى، بل بالغزو، ولهذا أصبح للانتماء القبلي دوره الحيوي في حياة سكان المنطقة.
كما كان لطبيعة المنطقة الجافة والفقيرة بالموارد أثرا على فنونها، بحيث أصبح الشعر هو الفن الوحيد المتداول بين سكان المنطقة، فقرضه لم يكن يتطلب ريش وأقلام وألوان ولوحات وأحجار وأدوات نحت وعزف وكتابة، بل فقط موهبة شعرية، وقدرة ما على حفظ الشعر، وإلقاءه. وبالتالي كان لشعراء كل قبيلة ومنطقة دورهم في تدوين وحفظ تاريخ قبيلتهم، والافتخار بانتصاراتها، وتدوين معاركها وحلها وترحالها، من خلال ما يقوموا بصياغته وتذكره من قصائد. وفي ظل غياب مكتبة أو مركز يمكن فيه حفظ هذه القصائد، بسبب طبيعة حياة العرب في الجزيرة ودوام تنقلهم من مكان آخر، فقد أصبح الشعر ديوانهم، والحارس الأمين على تراثهم وتاريخهم، منذ ما قبل الإسلام، وحتى اليوم. ولولا قصائد الشعراء لما عرفنا شيئا عن فترة ما قبل الإسلام، وخير مثال على ما كان للشعر من أهمية كتاب "في الشعر الجاهلي" للأديب والمفكر "طه حسين".
ولكن دور الشعر في أن يكون ديوانا للعرب والمصدر التاريخي لحياتهم توقف مع نشوء الدولة الحديثة، في بدايات القرن العشرين، وظهور فنون ووسائل تدوين وحفظ أكثر تطورا وديمومة.
ولو نظرنا إلى الزواج مثلا، وهو أهم حدث يمر بحياة الغالبية العظمى من البشر، لوجدنا أنه كان، ولآلاف السنين، وحتى إلى ما قبل سنوات قليلة، يتم شفاهة. وربما كان المسيحيون من القلة التي كانت ولا تزال تدون عقود الزواج والطلاق والوفيات، وتحتفظ بها في أقبية الكنائس، أما البقية، وعرب الجزيرة بالذات، فلم يكن لهم في تدوين هذا الحدث الهام والخطير نصيب، لأسباب تتعلق بطبيعة البيئة، وشح مواردها، وميلهم للترحال، وصعوبة الاحتفاظ بأية أوراق أو مستندات.
على ضوء كل هذه الحقائق، فإن أي كلام يتعلق بتاريخ أو حقيقة أصول الأسر والجماعات في المنطقة، لا يستند لمصادر تاريخية موثوقة، أو لقصائد شعرية قديمة، أو لنصوص نثرية أو وثائق معتمدة لمؤرخين أو رحالة ثقات، أو لملكيات عقارية مثبتة ومعروفة، كلام لا يعتمد عليه، ولا يجوز حتى الاختلاف عليه أصلا!
كما لا يمكن الركون بثقة لما يدعيه البعض من أن عائلة ما جاءت للكويت، مثلا، من هذه المنطقة أو تلك، بناء على ما رواه أحد جدودهم لهم شفاهة.
كما أن ما يعتقده البعض بوجود أعراق أصيلة وأخرى أقل من ذلك أمر لا معنى له في عالم اليوم. فالقبائل، في كل صحاري العالم، لم تكن تمنع أبناء القبائل المنافسة لها، من اللجوء لها وطلب الحماية منها، بل كانت ترحب بهم، خاصة إن كانوا أصحاب ثراء وقوة، وكانت تقبل مصاهرتهم وتسمح لهم بحمل اسم قبيلتهم، وهذا كان له الدور والأثر الأكبر، مع مرور القرون، في تغيير الأنساب واختلاطها، بحيث أصبح من الاستحالة معرفة أصول أية جماعة بدقة، لغياب المصادر الموثوقة، وانعدام أدوات القياس المعروفة، والجهل التام بمن كان الأب الأول للجماعة أو القبيلة.