فضيلة الشك
أثار صديق وطبيب باحث سؤالا، تعلّق بظاهرة تفوق شعوب جنوب شرق آسيا واليابان في مجالات عدة، صناعية وزراعية وتجارية، مع تخلفهم أو قصورهم، عالمياً، في مجالات الأدب والثقافة والفن، إلا ما ندر، مقارنة بما تخرجه العقول الأوروبية الغربية يوميا من نتاج أدبي وثقافي وفني مميز مقبول عالميا. كما لاحظ فقر تلك الشعوب أيضا في مجالات الاكتشافات الجغرافية، والبحث والعلوم الإنسانية. وقال إن السبب ربما يعود لكون هذه الشعوب مقلدة لإبداعات غيرها وليست مبتكرة لما هو جديد؛ فالصناعة يسهل تقليدها، أما الثقافة والفن فتقليدهما ليس بتلك السهولة!
على الرغم من وجاهة هذا الرأي، فإنه يفسّر الوضع ولا يوضح أسباب قصورها في مجالات الإبداع العقلية.
تاريخياً، بدأ التطور الاقتصادي والصناعي في اليابان مثلا مع عام 1868. ولكن عناصر ثقافتها التقليدية لم يكن بإمكانها مجاراة المتغيّرات العصرية العالمية الضخمة التي بلغت لذروتها في القرنين الأخيرين، ولهذا لم تتمكن من منافسة، أو حتى تقليد المنتج الثقافي والأدبي الأوروبي. كما ساعد تخوفها من تأثر ثقافتها بالثقافة الأجنبية في بقائها محلية وغير قادرة على أن تصبح عالمية، كصناعاتها. كما ساهمت معتقداتها الدينية في فقرها الثقافي، على الرغم من بروز تيارات إصلاحية عدة دعت الى تجديد الفكر الكونفوشيوسي المتمثل في تأليه الإمبراطور، وخضوع الفرد للمجتمع، إضافة الى تجذر الشنتوية والبوذية في سيكولوجية تلك الدول، إلا أن هذه الدعوات فشلت لافتقارها الى عناصر مهمة، وميل هذه الدول الى الإبقاء على ما للسلطة والمجتمع من مكانة في نفوس الأفراد، بدلا من حثهم على أخذ زمام المبادرة.
وبالتالي، لم نجد مسرحيات يابانية أو «سيمفونيات» صينية أو روايات كورية ذائعة الصيت عالميا، كصناعاتها. كما لم يكن لهذه الدول اكتشافات جغرافية، ليس لانعدام النزعات الاستعمارية لديها، بل لأسباب أخرى سيأتي ذكرها.
بدأ عصر التنوير في أوروبا، بقيادة فرنسا، في القرن الثامن عشر، وتمثّل في خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن الرشد، والتوقف عن التبعية لمن عيّنوا أنفسهم أوصياء على العقول، فتم إعمال العقل البشري، انطلاقا من «فضيلة» الشك في كل شيء، والمقصود بالشك هنا بمعناه الإيجابي، أي الرغبة في إيجاد تفسير للظواهر ومعرفة الأسباب الكامنة وراءها، وهذا تطلب في حينه جرأة، وثورة على مفاهيم كثيرة، وخروجا عن طاعة رجال الدين. ولم يكن غريبا أن أهم فلاسفة ومفكري عصر التنوير من أمثال: جان جاك روسّو وديفيد هيوم وفولتير كانوا من أكثر المعادين للمؤسسة الكنسية. وهذا الشك، أو الدعوة للخروج عن طاعة الكنيسة، هو الذي جعل الفرد الغربي يصبح أكثر إيمانا بالعقل، مع انتشار النموذج التجريبي للعلوم، وبزوغ عصر «نيوين» وبقية العلماء الأفذاذ. أما الوضع مع عمالقة آسيا الصناعيين فقد كان مختلفا، فهم لم يمروا بالثورة الصناعية ولا بمرحلة التنوير، ولم يشكّوا يوما في معتقداتهم، ولم يكن لديهم يوما صراع مع المؤسسة الدينية، وبالتالي تعايشوا مع العقيدة القديمة من دون أن يحاولوا إيجاد بديل لها، وكانت نتيجة هذا الانسجام، وعدم الشك في العقيدة، بخلاف الصين الشيوعية، أن روح الإبداع عندهم خمدت؛ فالشك، المتمثل في الرغبة في المعرفة هو العامل الكامن وراء نهضة الغرب، وهو الذي فتح الباب لمختلف الاكتشافات والمعارف العلمية، ولولا الشك لما اكتشفوا مثلا حقيقة كروية الأرض، وما أدى إليه ذلك من اكتشاف لأراض وقارات جديدة. فالنيل يجري في السودان ومصر منذ مئات آلاف السنين، ولكن لم يسأل أحد نفسه من أين ينبع، وتطلب الأمر قيام مغامر بحجم الإنكليزي جون سبيك john hanning spek في عام 1858 ليقوم بتعقّب مصدره واكتشاف البحيرة التي أطلق عليها اسم «فيكتوريا»، وهذا ما حدث مع صحراء الرّبْع الخالي والأهرامات، وآثار فيلكا.
أحمد الصراف
على الرغم من وجاهة هذا الرأي، فإنه يفسّر الوضع ولا يوضح أسباب قصورها في مجالات الإبداع العقلية.
تاريخياً، بدأ التطور الاقتصادي والصناعي في اليابان مثلا مع عام 1868. ولكن عناصر ثقافتها التقليدية لم يكن بإمكانها مجاراة المتغيّرات العصرية العالمية الضخمة التي بلغت لذروتها في القرنين الأخيرين، ولهذا لم تتمكن من منافسة، أو حتى تقليد المنتج الثقافي والأدبي الأوروبي. كما ساعد تخوفها من تأثر ثقافتها بالثقافة الأجنبية في بقائها محلية وغير قادرة على أن تصبح عالمية، كصناعاتها. كما ساهمت معتقداتها الدينية في فقرها الثقافي، على الرغم من بروز تيارات إصلاحية عدة دعت الى تجديد الفكر الكونفوشيوسي المتمثل في تأليه الإمبراطور، وخضوع الفرد للمجتمع، إضافة الى تجذر الشنتوية والبوذية في سيكولوجية تلك الدول، إلا أن هذه الدعوات فشلت لافتقارها الى عناصر مهمة، وميل هذه الدول الى الإبقاء على ما للسلطة والمجتمع من مكانة في نفوس الأفراد، بدلا من حثهم على أخذ زمام المبادرة.
وبالتالي، لم نجد مسرحيات يابانية أو «سيمفونيات» صينية أو روايات كورية ذائعة الصيت عالميا، كصناعاتها. كما لم يكن لهذه الدول اكتشافات جغرافية، ليس لانعدام النزعات الاستعمارية لديها، بل لأسباب أخرى سيأتي ذكرها.
بدأ عصر التنوير في أوروبا، بقيادة فرنسا، في القرن الثامن عشر، وتمثّل في خروج الإنسان عن مرحلة القصور العقلي وبلوغه سن الرشد، والتوقف عن التبعية لمن عيّنوا أنفسهم أوصياء على العقول، فتم إعمال العقل البشري، انطلاقا من «فضيلة» الشك في كل شيء، والمقصود بالشك هنا بمعناه الإيجابي، أي الرغبة في إيجاد تفسير للظواهر ومعرفة الأسباب الكامنة وراءها، وهذا تطلب في حينه جرأة، وثورة على مفاهيم كثيرة، وخروجا عن طاعة رجال الدين. ولم يكن غريبا أن أهم فلاسفة ومفكري عصر التنوير من أمثال: جان جاك روسّو وديفيد هيوم وفولتير كانوا من أكثر المعادين للمؤسسة الكنسية. وهذا الشك، أو الدعوة للخروج عن طاعة الكنيسة، هو الذي جعل الفرد الغربي يصبح أكثر إيمانا بالعقل، مع انتشار النموذج التجريبي للعلوم، وبزوغ عصر «نيوين» وبقية العلماء الأفذاذ. أما الوضع مع عمالقة آسيا الصناعيين فقد كان مختلفا، فهم لم يمروا بالثورة الصناعية ولا بمرحلة التنوير، ولم يشكّوا يوما في معتقداتهم، ولم يكن لديهم يوما صراع مع المؤسسة الدينية، وبالتالي تعايشوا مع العقيدة القديمة من دون أن يحاولوا إيجاد بديل لها، وكانت نتيجة هذا الانسجام، وعدم الشك في العقيدة، بخلاف الصين الشيوعية، أن روح الإبداع عندهم خمدت؛ فالشك، المتمثل في الرغبة في المعرفة هو العامل الكامن وراء نهضة الغرب، وهو الذي فتح الباب لمختلف الاكتشافات والمعارف العلمية، ولولا الشك لما اكتشفوا مثلا حقيقة كروية الأرض، وما أدى إليه ذلك من اكتشاف لأراض وقارات جديدة. فالنيل يجري في السودان ومصر منذ مئات آلاف السنين، ولكن لم يسأل أحد نفسه من أين ينبع، وتطلب الأمر قيام مغامر بحجم الإنكليزي جون سبيك john hanning spek في عام 1858 ليقوم بتعقّب مصدره واكتشاف البحيرة التي أطلق عليها اسم «فيكتوريا»، وهذا ما حدث مع صحراء الرّبْع الخالي والأهرامات، وآثار فيلكا.
أحمد الصراف