من روسيا.. مع الحب (2-2)
عندما تزور روسيا تشعر كم تتنازعها مشاعر الانتماء الجغرافي، فتراها في عواطفها وسياساتها تميل تارة نحو الغرب وتارة نحو الشرق، ونرى ذلك متمثلا في شعار القياصرة القديم «النسر ذي الرأسين»، الذي يتجه أحدهما للشرق والآخر للغرب، ثم جاء السوفيت، وهذه الكلمة تعني الأغلبية، والغوا شعار القياصرة واعتمدوا شعار المطرقة والمنجل. ومع النظام الجمهوري الجديد تم التخلي عن الشعار الشيوعي وأعاد الرئيس بوتين الاعتبار ثانية لشعار القياصرة «النسر ذي الرأسين»، بصلبانه المتعددة، في حركة رمزية تمثل الحنين للماضي والانتماء للكنيسة الأرثوذكسية، والفخر بعصر روسيا الذهبي، أيام القياصرة. كما قام بوتين، مقابل ذلك، باختيار لحن النشيد الوطني للاتحاد السوفيتي السابق لحناً لروسيا الاتحادية، في إشارة واضحة إلى أن ما جرى في العصرين القيصري والسوفيتي هو جزء من تاريخ روسيا لا يودون التخلي عنه، على الرغم من كل الجوانب المؤلمة والسوداء في الحقبتين. والزائر لروسيا اليوم يرى بجلاء أمامه آثار وذكريات وآلام وأحلام وفخر الروس بعصور حكمهم الثلاثة، على الرغم من كل ما بينها من اختلافات وتنافر، فجميعها تمثل شيئا لهم، ولا يخفون مشاعرهم تجاهها وهي بالفعل مصدر فخرهم، وهذا ما لمسته شخصيا، فهم كانوا ولا يزالون ينتمون إلى «روسيا الأم»!
بخلاف بقية دول العالم العظمى الأخرى، فإن روسيا كبيرة الحجم مترامية الأطراف يصعب حكمها من دون نظام إداري دقيق يسمح لكل مجموعة بقدر من التنفس، إلا ان هذا يجعلها أيضا دولة ثرية جدا في ثقافتها وآدابها وفنونها. كما يمتاز المطبخ الروسي بتعدد مذاقاته، وشعبها بتعدد أعراقه وعاداته وتقاليده، فهناك أقليات مسلمة كبيرة وعدد لا بأس به من اليهود، والغالبية مسيحون ارثوذكس، ولا دينيون وغير ذلك من أقليات عرقية ودينية.
زيارة قصور القياصرة، وقاعات الكرملين الرسمية تبين بوضوح مدى البذخ الذي كان يعيشه قياصرة آل رومانوف، الذين أعيد الاعتبار لآخر قياصرتهم، بعد نقل رفاته وأسرته من سيبريا حيث سبق ان قتلوا، ليدفنوا في أكبر كنائس سانت بطرسبورغ، عاصمتهم التي طالما أحبوها.
والطريف أن غالبية قصور القياصرة تم ترميمها بأيدي فنانين سوفيت. كما نجد أن الكنائس الكبرى، التي أهملت طوال سبعين عاما تقريبا، لم تهدم أو تزل، وإنها عادت إلى سابق بريقها. كما تملأ شوارع وطرق المدن الكبرى، خصوصا العاصمة موسكو تماثيل القادة السوفيت، وبالذات لينين، حتى تمثال وقبر الضابط الشيوعي المسؤول عن قتل نقولا الثاني، آخر القياصرة، وزوجته وولي عهده وبناته، لا يزال يجد مكانه بين قبور بقية القادة السوفيت في الساحة الحمراء، وتسمية الساحة بالحمراء تسمية خاطئة، فهي لا تعني بالروسية اللون الأحمر، فكلمة كراسنيا الروسية تعني أصلا الجميل، ولكن تسمية الحمراء غلب الأصل، إن بسبب تعدد المباني الحمراء حول الساحة، او بسبب لون الشيوعية الأحمر المفضل، كما يقال إن التسمية الحالية انتشرت بعد أن قام إيفان الرابع بمذبحة في الساحة، سالت فيها دماء حمراء كثيرة، بعد موت زوجته!
ولو قارنا وضع الاتحاد الروسي بدولنا الثورية لوجدنا ان الأخيرة قطعت كل صلاتها بماضيها وحرقت كل جسورها مع الأنظمة السابقة ولم تحتفظ إلا ببضعة مبان أو قصور فخمة نسبيا لاستخدام ضباطها.. الأحرار، وهذا يدل على أن ثورية انقلابيينا كانت أقرب «للثوارة» منها للثورة!
روسيا دولة غنية، وهي برأيي واحدة من ثلاث دول فقط في العالم تمتلك كل شيء تقريبا، كما تمتاز بأمور رائعة وخلابة أخرى لا تجدها في غيرها من الدول التاريخية العظمى، بتعدد ثقافات شعوبها وتنوعها العرقي واللغوي والموسيقى. كما أن تكلفة السياحة فيها لا تزال معقولة جدا، وبالتالي أؤيد بقوة زيارتها صيف هذا العام، سواء أثناء أو بعد انتهاء مباريات كأس العالم.
* * *
تزامن الجزء الأول من مقالنا مع الذكرى الـ 315 على تأسيس سانت بطرسبورغ.. يا لها من مصادفة عجيبة.. من أقاصي الأرض يزورها كويتي ويتذكّرها ويكتب عنها في يوم ظهورها إلى الدنيا!
أحمد الصراف