بعبع التزوير
تاريخياً، كانت شهادة الدكتوراه أعلى درجة علمية يمكن الحصول عليها في أغلبية الحقول، وأهمها الطب والحقوق.
انتشر استخدام اللقب علمياً في القرن الـ19، عندما كانت درجة الفلسفة تحمل معاني أوسع، وتعني حب المعرفة أو الحكمة، وكانت شهادة الفلسفة تمنح لدارسي علم الأعصاب والفيزياء والأدب الفرنسي وغيرها. وكانت الشروط صعبة وتتطلب اكتشاف شيء أو نظرية جديدة، ولكن مع نهاية الحرب العالمية الثانية أصبح عدد الساعين إليها كبيراً. كما أصبحت الجامعات تطالب مدرسيها بالحصول عليها، ومع الوقت زاد عدد حملتها على حاجة الجامعات. وبالتالي، اتجه هؤلاء إلى مجالات عمل أخرى. ومع تزايد أعداد الدكاترة ظهرت مطالبات في الأوساط العلمية، بدءاً من عام 1968 لإدخال إصلاحات عليها أو وقف إصدارها كليا، لغير المهتمين بالتعليم.
لا شك في أن مجتمعاتنا دخيلة على الحضارة البشرية الحديثة، حيث كانت، وإلى فترة قريبة، كاملة الأمية تقريباً، فما كان يتداول في الكويت من مكاتبات سياسية أو عائلية أو وثائق بيع ملكيات عقارية مثلاً كان يتسم بركاكة لغاته، وتواضع الوضع التعليمي، وبالتالي من يستطيع القراءة والكتابة يعتبر «أستاذاً»، ثم تأخرت مكانة هؤلاء وأصبح من يكمل الثانوية خريجاً، وبعدها بسنوات، ومع ازدياد أعداد هؤلاء «طاحت سكتهم»، وانتقل اللقب لخريجي الجامعات، وكان هؤلاء يحصلون المناصب بسهولة وعلى أعلى الرواتب. وفجأة، ومع بداية ستينات القرن الماضي، اكتشفت مجموعة عرف عنها كيف تأكل الكتف أن مجتمعاتنا «الأمية بطبيعتها والساذجة باختياراتها» تنبهر بالألقاب العلمية، حتى لو كانت فارغة من المضمون، فسعت من دون جهد للحصول على شهادات دكتوراه من دول أوروبية «طايحة حظ» تقع غالباً ضمن نفوذ الاتحاد السوفيتي، وفي تخصصات غير ذات أهمية. ثم أصبحت الجامعات العربية، خصوصاً في مصر، تلبي لهفة الكثيرين للحصول على شهادات دكتوراه، من دون أن يغادر هؤلاء كراسيهم، وكان من أوائل هؤلاء وأشهرهم وزير تربية حصل على الماجستير والدكتوراه وهو وزير، ولكن يا حيف، لم يسأله أحد كيف؟! والسبب ان الجميع كان مبهوراً باللقب، جاهلاً بشروط الحصول عليه وما يتطلبه من تفرغ لا يقل عن ثلاث سنوات… وهذا يعني، لمن يعنيه الأمر، أن جميع من حصل على اللقب وهو على رأس عمله من أمثال كبير الفروانية ونائب سابق، وثلة من الوزراء والنواب، السابقين واللاحقين، لا يستحقون شرف حمله، وعليهم تقع مسؤولية التخلي عنه، كما فعل الداعية «ن. م» والداعية الصداح «م. ع»، وكما فعل أحد الوزراء، بكتاب رسمي مع أحد مسؤولي الهيئة الشرعية في بيت الزكاة!
المشكلة أن الذي فتح شهية ضعاف النفوس والعقول على السعي، بمختلف الوسائل، لشراء الدكتوراه، هو القدر الكبير من الاحترام الذي أصبح يلقاه من يحمل اللقب، سواء في التعيينات السياسية الخطيرة أو في مجلس الوزراء أو في الدواوين وفي المقالات، المكتوبة نيابة عنهم. كما ساهم الطمع في العلاوة المالية السخية التي يحصل عليها حامل اللقب، في ازدياد أعدادهم، ووضعهم هؤلاء يشبه وضع الطامعين في الجنسية الكويتية، فالهدف ليس هذه الأرض بل لما يحصل عليه «المتجنس» من مزايا مالية، ولو ألغيت لما أصبحت الجنسية مغرية!
إن وصول الخراب، الذي طالما حذّرنا منه، لأكثر الجهات العلمية وقاراً، ولأكثرها علاقة بالمؤسسة الدينية، بيّن أن غياب الأخلاق هو السبب، وليس غياب الوازع الديني، أو الجرعة الدينية. فقد تهاوت عروش دعاة كبار وظهر زيفهم، وهم الذين طالما طوشوا آذاننا بعظاتهم عن الشرف والأخلاق والأمانة.
لقد كنت أول من كتب قبل أكثر من عشر سنوات بأنني لن أضع حرف الدال أو أشير أو أخاطب أي «دكتور أكاديمي» بلقبه، بعد أن أصبح التزوير علنياً، وبعد اكتشافي لمدى خواء عقليات الكثيرين من حملة الدال، علماً بأن اللقب لا يعني الكثير حتى مع حملة «أصدق» شهادات الدكتوراه، فالحصول على الشهادة يعني غالباً أن حاملها قام بإجراء بحوث أدبية أو علمية أو غيرها في مجال معين، وأحاط بموضوع ما، بناء على رأي اللجنة التي قامت بامتحان قدراته، وأعطته بالتالي الشهادة كإثبات على ذلك. وهكذا نلاحظ دائماً أن السواد الأعظم من حملة الدكتوراه، الحقيقيين، دع عنك المزيفين، لا تزيد معلوماتهم أو قدراتهم على غيرهم إلا في مجال بحث محدد، والذي قد لا تأتي الفرصة للقيام به أبداً. كما يفترض أن شهادة الدكتوراه تعني أن صاحبها «أتى بجديد» في حقله، ولكن بالنظر في رسائل الدكتوراه التي حصل عليها الكثيرون، خصوصاً في الدول الخليجية، نلاحظ تواضع مجالاتها، وعدم إضافتها شيئاً للمعرفة الإنسانية، ومن هذا المنطلق سخرت دائماً وانتقدت رجال الدين «الدكاترة» الذين يفترض أنهم أتوا بجديد في العقيدة. فكما هو معلوم لدى العامة، الدين كامل، فكيف أتى هؤلاء بجديد فيه؟
أحمد الصراف