العودة إلى الماضي السحيق
بينت دراسة بعنوان «كيف تحكمت الحركات الإسلامية في المجتمع عبر سيطرتها على التعليم»، قام بها الزميل الأميركي، السوري الأصل، عماد بوضو، الكثير من الحقائق التي يجدر تسليط الضوء عليها لعل وعسى تنتبه حكومتنا وتتخلص من أصحاب الأفكار المتخلفة في سلك التعليم، بعد أن بلغ البؤس مبلغه.
يقول بوضو إن الدول الأوروبية سعت، مع انهيار «الدولة العثمانية»، الى إقامة عدد من المدارس في الدول العربية. كما سمحت لطوائف محلية بتأسيس مدارسها، كالفرنسيسكان والفرير واليسوعية والمحبة واللاييك. كما كان لليهود نصيبهم. وعرفت الدول العربية التعليم الحديث عن طريق هذه المدارس. ومع تراجع دور المدارس الأجنبية، ظهرت الدينية وتوسعت خلال فترة الانتداب، وكان مستواها مميزا، خاصة في المواد العلمية والثقافية واللغات والفنون والرياضة، وبذلك حرص السراة على تسجيل أبنائهم فيها. واستمر تميزها إلى ما بعد الاستقلال، وخرجت الكثير من القادة الذين أثروا في حياة مجتمعاتهم طوال قرن كامل.
وفي ظل الأنظمة العسكرية، التي وصلت الحكم مع النصف الثاني من القرن العشرين، تم تأميم هذه المدارس، وتراجع دورها، ومع الصحوة بدأت تظهر مدارس دينية لجأ لها كل من لم ينل علامات كافية تؤهله للالتحاق بالتعليم العام، أو لمن لا يريد لابنته الذهاب إلى المدارس العادية خوفاً من «الفساد»! لذلك تزايد عددها سريعاً، ففي دمشق ظهرت مدارس «القبيسيات» على اسم مؤسستها، التي أصبحت مع الوقت ودعم الإخوان تدير نصف المدارس الخاصة. كما تأسست مدارس مشابهة في شمال أفريقيا وفي الأردن وفي غيرها، وساعد في انتشارها نجاحها في التوفيق بين الدعوة الإسلامية والبيزنس التجاري المربح، حيث بلغ عددها في الجزائر 2500 مدرسة. أما في مصر فكان الوضع بحكم الكارثة التعليمية، فقد كان لدى الأزهر مليوني طالب قبل الجامعة، ونصف مليون بعده، و10 آلاف معهد تعليمي.
أما في تركيا، فإن ميزانية التعليم الثانوي الإسلامي ستبلغ ملياري دولار مع نهاية 2018، وبلغت أعداد طلبة الإعدادية مليوناً و300 ألف في 4000 مدرسة. ولم يؤد الدعم الحكومي لهذه المدارس الى تحسن مستوى مخرجاتها، لذلك تراجعت تركيا ثماني مراكز في مسح الأداء الأكاديمي في العلوم والرياضيات خلال السنوات الثلاث الماضية، لتصبح في المرتبة 50 من أصل 72 دولة. وكان لفتح الله غولان السبق على اردوغان في استغلال الإسلام سياسياً بهدف الوصول للسلطة.
لا تختلف قصة باكستان عن بقية الدول الإسلامية. فقد تم تأميم المدارس الأجنبية في السبعينات، فتراجع مستوى التعليم، ومن مدارسها القرآنية انطلقت حركة طالبان. كما تغاضت معظم حكومات الدول الخليجية والعربية الأخرى عن تزايد إنشاء المدارس الدينية والتغيرات الهائلة في مناهج المدارس الحكومية، فتخلف التعليم فيها، ووصلت الحال بنا الى أن نصبح في ذيل قائمة التميز في التعليم، بعد أن شجعت أو تغاضت الحكومات عن افتتاح المدارس الدينية التي تهتم بالتدين الظاهري، كالحجاب واللحية وطابع الصلاة على الجبين، وأي الأدعية أنسب عند كل حركة أو تصرف، وتكرار الصغار لسور مئات المرات من دون تفكير، مع وقف تدريس الفنون باعتبارها محرمة، وعدم إعطاء الرياضة أي اهتمام. وكان غالبية المشرفين على هذه المدارس من المهادنين لسلطات دولهم، التي سمحت لهم بالعمل على أسلمة المجتمع. ونجحت حركات التدين الظاهري هذه حتى الآن بالسيطرة على المجتمع، وبالتالي تراجع مستوى الثقافة والرغبة بالمعرفة، وتغير مظهر وملبس أبناء وبنات هذه البلدان، وتوضح المقارنة بين شكل المجتمع اليوم وما كان عليه الوضع قبل خمسين سنة هذا الفارق بشكل ساخر؛ كأن تأتي فتاة محجبة اليوم بصورة لجدتها، وهي ترتدي الشورت، أو مشهد مدرج الجامعة المليء بالطالبات المحجبات اليوم، والمدرج نفسه قبل بضعة عقود، تطغى عليه صورة المرأة المتحررة القوية الواثقة من نفسها.
لقد نجحت حركات الإسلام السياسي والاجتماعي بالفعل في إعادة الدول الإسلامية إلى الماضي!