الجليب العميق

يعتبر الكثيرون منطقة جليب الشيوخ نائية وغريبة، على الرغم من أنها ملاصقة للمطار. وكثيرون لا يعرفون موقعها بالدقة، ولا يفكرون في زيارتها، حتى لو اقيم فيها معرض دولي للبطيخ، ويحدث ذلك في دولة لا تتعدى فيها المساحة الحضرية المخصصة للسكن 500 كلم2.
قمت يوم الجمعة الماضي، وبدعوة من إدارة مدرسة سانت جورجيوس الهندية، بالتوجه الى الجليب التي لا تبعد أكثر من 15 دقيقة عن سكني، لإلقاء كلمة بمناسبة عيد الحصاد. قمت بعدها بجولة في المنطقة وأحزنني بالفعل وضعها، وما اكتشفته من أنها مثالية للكثير من شركات المقاولات والمكاتب الهندسية لتحقيق ثروات هائلة من خلال التلاعب بتنفيذ مشاريع الدولة، فهي بعيدة عن العين والقلب، ولا أحد تقريبا من المواطنين أو المسؤولين يكترث لوضعها البائس، بخلاف الداخلية التي تقوم بين الفترة والأخرى بكبساتها، لتتركها لجولة ثانية. كما أن قلة من وسائل الإعلام، وأصحاب الألسن الطويلة، وكتاب الصحف المتخصصين في توجيه الصحيح والباطل من الانتقادات للحكومة، يكترثون لوضعها، بالرغم من أنها بالفعل منطقة «نموذجية سلبية» لدراسة الوضع الإنشائي والمعماري والبيئي في الدولة بعد أن تحولت، لأسباب تتعلق برغبة الدولة في توزيع الثروة، من منطقة سكن لفئة من المواطنين إلى منطقة تجارية واستثمارية، بمبان شاهقة ومتلاصقة تفتقر الى كل متطلبات الأمن والسلامة من مواقف سيارات وغيرها، وانتهى الحال بها لأن تصبح سكنا للجاليات الكبيرة العدد والفقيرة، وأصبحت بالضرورة خارج اهتمامات الفئات المرفهة وكبار مسؤوليها، وبعيدة عن العيون المنتقدة وكل هذا وفر البيئة، أو الشرنقة المناسبة للخراب والحرمنة والفساد.
من تفحصي السريع للوضع فيها، بإمكاني الجزم إلى حد كبير أنه ليس فيها مبنى واحد تنطبق عليه شروط البيئة والإطفاء والكهرباء وأنظمة البناء الصحيحة، فجميع مبانيها عبارة عن كتل كونكريت مخالفة لكل ما هو صحيح، وحتى شوارع المنطقة حققت فيها شركات الطرق ثروات كبيرة.
لا أقصد هنا التركيز على وضع الجليب بل هي مثال فقط لمناطق كثيرة تشبهها في وضعها السيئ، وبالتالي كانت آثار كارثة الأمطار الأخيرة أكثر قسوة عليها.
وغني عن القول ان من دفع بأوضاعها لكي تكون بهذا السوء هو المواطن صاحب العقار مع المواطن المسؤول في البلدية والبيئة والإطفاء والمواصلات والكهرباء وغيرها من مصالح حكومية. فتطبيق متطلبات كل هذه الجهات يرفع كثيرا من تكلفة البناء، مما يعني استحالة تأجير الشقق فيها بعائد معقول، وبالتالي يضطر المواطن «الشريف» للضغط على الجهات الحكومية لإعفائه من متطلبات البناء المتشددة، ويلبي المسؤول طلب المواطن إما تحت الضغط النيابي، أو من خلال تدهين السير، بما لذ وطاب من رطب وربطات. وهذا بطبيعة الحال ينطبق على بعض موظفي هذه الجهات الرقابية المعنية، فهناك شرفاء في البلدية والإطفاء والبيئة والكهرباء أتعامل معهم بشكل مستمر، وهم مثال الأمانة والخلق، ولكن التدخل السياسي، مترافقاً مع سكوت حكومي وبمستويات مختلفة، خرب ضمائر الكثيرين!

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top