شكراً متأخرة جداً لـ«كوهن» الجميل

هذه قصة أصعب موقف مررت به في حياتي. كان الوقت ظهر يوم صيفي حار من عام 1986، والمكان حديقة عامة في إحدى الضواحي الإنكليزية، وكان والدي في زيارة لنا، حيث كنت أعيش وأسرتي، وكنت يومها معه وأطفالي الثلاثة. كنا نلعب معاً، ثم قرر والدي أن يتمشى في الحديقة، فأخذ اثنين من أحفاده معه وترك لي الصبي محمد، الذي لم يكن قد تجاوز الخامسة من عمره. أثناء لعبه على «زلاقية أو زحليطة» سقط من أعلى نقطة فيها على الأرض، وبقي هامداً في مكانه فاقداً للوعي تماماً.
حملته بين يدي، وكلي هلع، وأخذت أجري كالمجنون يميناً ويساراً، لا أدري ما عليّ القيام به لإسعاف طفلي، فلذة كبدي، فالمنطقة غريبة عليّ، ولم أكن أعرف الطريق لأقرب مستشفى، وحتى لو كنت أعرف لما تمكنت من فعل شيء فقد كانت مفاتيح السيارة مع والدي!
وقفت في وسط الشارع وأنا أحمل ابني الذي كان جثة هامدة على يدي، أتلفت ذات اليمين وذات اليسار، ولا شك في أن منظري كان مثيراً للشفقة، وخلال دقائق خلتها دهراً، أقبلت سيارة فتوقف سائقها وطلب مني الصعود ليأخذني لأقرب مستشفى. كانت الطريق الأطول التي مررت بها في حياتي، راودتني خلالها أكثر الأفكار سواداً. ماذا أقول لأمه عندما تسمع بفقد ابنها الأثير لديها! ما الذي سيحدث لي وأنا الذي كنت مسؤولاً عنه؟ ما الذي سيكون عليه حالنا إن تبين أن محمد قد أصيب بارتجاج في المخ وأصبح عاجزاً، هل ستتضاعف مشاكلنا مع وجود أخ أكبر منه وعاجز عن الاعتماد على نفسه؟
وصلنا إلى المستشفى بعد فترة خلتها عاماً، وسلمت الطفل لعناية الأطباء وبقيت بانتظار النتيجة لأكثر من ساعة، ليخبروني بأنه سيعيش، وأنه بخير! وانتظرت ساعة أخرى ليؤكدوا لي أنه لم يصب بضرر كبير، ولا وجود لعلامات ارتجاج في المخ أو كسر، وسيعود إلى حياته الطبيعية خلال أيام!
وفجأة، أصبحت أتبين ما كان يدور حولي، واكتشفت أن الرجل البريطاني الذي قدّم لي أثمن مساعدة في حياتي ونقلني بسيارته إلى المستشفى، وكان سبباً في إنقاذ حياة طفلي الحبيب، ما زال جالساً إلى قبالتي، ولم تسمح الحالة التي كنت عليها لأن أتنبه إلى وجوده أو تقديم الشكر له، أو على الأقل أن أطلب منه أن يذهب لحال سبيله، فتقدمت منه واعتذرت له بحرارة لما سببته له من مضايقة، وشكرته بحرارة أكثر لدوره في إنقاذ حياة ابني الصغير، وطلبت منه أن يزوّدني برقمه أو اسمه ويذهب إلى حال سبيله، وسألتقي به لاحقاً لمكافأته، فتمتم رافضاً أي تقدير، وأنه سينتظرني وابني ليعيدني إلى نفس الحديقة، فقد فهم بحدسه أنني حتى لو طلبت سيارة أجرة فلن أعرف كيف أطلب من سائقها إعادتي إلى موقعها!
أوصلني واستمر في رفض إعطائي اسمه أو رقم هاتفه لتقديم الشكر تالياً له، وقال إنه لم يفعل شيئاً غير واجبه!
وبعدها بستة أشهر تقريباً، وفي مناسبة اجتماعية تقدم مني رجل ومد يده مصافحاً وهو يسألني إن كنت ما زلت أعرفه، فهززت رأسي متأسفاً، فقال إنه «كوهن» الذي نقلني وابني إلى المستشفى، وإنه يتفهم عدم تعرفي عليه، فقد كنت في قمة ارتباكي يومها.
عرفت منه أنه يهودي بريطاني ملتزم، وأنه كان يعرف من لهجتي وربما من ملامحي أنني «شرق أوسطي»، وأنه رفض أن يعطيني اسمه ورقم هاتفه لكي لا أفسد عليه سعادته بما قام به من عمل تطوعي إنساني! من أجل كوهن وعشرات الآلاف الخيرين من أمثاله، سأبقى دائماً في خدمة الإنسانية من دون تفرقة بسبب لون أو دين، عِرق أو طائفة.
***
نطالب سمو رئيس مجلس الوزراء بمساندة وزيرة الإسكان، جنان رمضان، في موقفها من المعارضين الشرسين لها، وتثبيتها في منصبها لتستمر في محاربة الفساد في الجهات التي تشرف عليها، والا يرد سموه على المطالبات المشبوهة بإقالتها.

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top