أنا علماني.. وسعيد بذلك

يعتقد الكثير من أنصاف المتعلمين أن العلمانية تعني الإلحاد، غير مدركين لحقيقة أن جميع الدول المتقدمة لا تنص دساتيرها على دين، وغالبيتها لا تدرس مادة الدين ضمن مناهجها، ومع هذا يرفع الأذان خمس مرات في مساجدها، وتدق نواقيس كنائسها مرات كل أسبوع، وتوجد بها معابد لكل العقائد والمذاهب، وحتى الحسينيات، ويشعر كل متديّن يعيش بها، ولأي دين انتمى، بالحرية الدينية، خاصة إن كان مهاجرا أو هاربا من وطنه، المسلم غالبا.
العداء للعلمانية ينبع عادة من الجهل بما تعنيه الكلمة، وما سينتج عن تطبيقها من خطر على وضع المستفيدين من بقاء سيطرة رجال الدين على حياة الناس. فمتى ما أصبحت الدولة علمانية فإن مزايا رجل الدين ستضمحل، وسيقل نفوذه بين العامة.
تعد العلمانية من أكثر الكلمات التي تعرّضت لسوء فهم وخلط، عن جهل أو عن عمد، مع الإصرار على إلصاقها بالإلحاد، ومن يقترب من العلمانية فقد اقترب من المنكر. هذا الخلط يعود بالدرجة الأولى إلى حداثة الكلمة، المشتقة من العالم الذي نحن فيه، وللعلم الحديث، ونحن نرفض ببساطة الانتماء الكامل للعالم من حولنا، ومواثيقه الإنسانية، ونرفض أيضا الاتجاه للحداثة والتطور والتصنيع الكامل، داعين بأن «لا يغيّر الله علينا»!
بدأ ظهور العلمانية secularism مع بدأ التمرّد الأوروبي في عصر النهضة على القوى التي تمثل السلطة الروحية، واضطرتها في نهاية المطاف الى التنازل على سلطاتها للمجتمع المدني. وكان من الممكن أن يكون ذلك مسار أغلب دولنا، كما حدث مع بقية دول العالم، وإن بوتيرة، ولكن تزايد المد الأصولي، مع منتصف القرن العشرين، وتصاعد سطوته على الثقافة والسياسية وحتى الاقتصاد، بدعم من مختلف الأنظمة السياسية، جعلا من تطبيق العلمانية أمرا في غاية الصعوبة، ولم ينجح في ذلك جزئيا إلا بورقيبة في تونس، وأصبحت الأصولية موضة، واصبح كل شيء يوصف بأنه «إسلامي» من الصكوك المالية وحتى السراويل، ومع كل هذا التخلّف لم يكن أمام المستنيرين غير الدعوة للعلمانية، أي أن تقف الدولة أو الحكومة التي تمثّلها على مسافة متساوية من أتباع جميع المذاهب والأديان والأجناس، وهذا ما سنبلغه في نهاية المطاف.
* * *
أصبحت في عام 1968 مسؤولا إداريا، وكان ولا يزال ضمن مسؤولياتي مقابلة وتوظيف من يصلحون لهذا العمل أو لتلك المهمة. ولا أذكر أنني فضّلت يوما مرشّحا على آخر بسبب الجنس، أو الجنسية أو الدين. تذكرت هذه الحقيقة قبل ايام عندما طلب مني أحد الموظفين مساعدته في إدخال ابنه إلى الجامعة، لأن ظروفه المالية ووضعه كفلسطيني، لا يسمحان له بإرساله للدراسة في الخارج، على الرغم من تفوقه.
لم يكن سهلا عليّ الاتصال بمسؤول كبير والطلب منه قبول الطالب في جامعة الكويت، فماذا سيكون وضعي إن رفض؟ ولماذا أتحمّل «جميلة أو معروفة»؟ فقد يتطلب الأمر توجيه النقد له مستقبلاً، وسيكون الأمر محرجاً! ولكن بعد تردد لم يدم طويلا، أرسلت شهادات الطالب له، فرحّب بي بكل لطف، وقبل بمساعدته!
سعادة الأب كانت غامرة، ولم يكن يعرف كيف يشكرني، وفجأة انتبهت لـ«الزبيبة» الكبيرة على جبهته، وللحيته الطويلة، ولكل مظاهر التطرّف الديني البادية عليه، واستغربت لوهلة كيف لم أنتبه الى كل ذلك وأنا أفكر في تعريض نفسي لموقف صعب، من أجل مساعدته! وبدلا من أن أندم على ما قمت به، ومساعدة شخص متعصّب، غمرني شعور بالسعادة، فقد أثبتّ لنفسي ثانية إنسانيتي، وإن علمانيتي هي التي دفعتي إلى فعل ما فعلت، وهذا حتماً أمر يصعب جدّاً حدوثه على الجانب الآخر.

أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top