ابتعد عن هذا الجهاز فوراً
تعلقت بالقراءة منذ الصغر، ولم يستهوني التلفزيون إلا لفترة، ولا أتذكر متى كانت آخر مرة التصقت فيها بهذا الجهاز لأكثر من عشر دقائق. هناك تصور عام بأن قراءة الكتب أمر جيد، ومشاهدة التلفزيون أمر ضار. وبالرغم من إيماني بذلك، فإنني لم أكن أعرف السبب حتى كتابة هذا المقال، فما الفرق مثلاً بين مشاهدة فيلم وثائقي عن الثورة الروسية وقراءة كتاب عن الموضوع نفسه... فكما أن هناك كتباً جيدة هناك أيضاً كتب سيئة، وهناك أيضاً أفلام جيدة وأخرى رديئة. فما قول العلم في ذلك؟ قامت جامعة «توهوكو» اليابانية عام 2013 بإجراء فحص على أدمغة 276 طفلاً يقضون وقتاً طويلاً في مشاهدة التلفزيون، ومراقبة تأثير ذلك عليهم على المدى الطويل. تبين أنه كلما زاد تعلق الأطفال بمشاهدة التلفزيون، أصبحت أجزاء من أدمغتهم مرتبطة بمستويات أعلى من الإثارة والعدوان، وقلت لديهم في الوقت نفسه القدرة على التفكير اللفظي. في العام نفسه، أجرت جامعة «إيموري» الأميركية تجربة حول كيفية تأثير قراءة رواية على الدماغ، حيث طُلب من الطلبة قراءة رواية «بومبي» التي تدور حول ثورة جبل فيزوف في إيطاليا، وجرى اختيار الكتاب بسبب لغته القوية وما تضمنه من مؤامرة درامية على أساس أحداث حقيقية. لوحظ، بعد قراءة الرواية، أن التواصل زاد بين الطلبة المشاركين، وتأثرت أجزاء من أدمغتهم، خصوصاً المتعلّق منها باللغة. كما لوحظ وجود نشاط متزايد في المنطقة الحركية للدماغ، مما يشير إلى أن الطلبة مروا بأحاسيس مماثلة لشخصيات الكتاب. كما أجرى فريق من الباحثين من جامعة أوهايو مقابلات مع 107 من الأطفال في سن ما قبل المدرسة، وأولياء أمورهم، وجرى اختبارهم، فوجدوا أن زيادة مشاهدة التلفزيون تضعف من نظرتهم المعرفية. وكشفت دراسة صدرت عام 2015، ونشرت في cerebral cortex، أن مشاهدة التلفزيون لساعات يمكن أن يغير من تركيبة الدماغ البشري. فكلما زاد الوقت الذي يقضيه الطفل أو المراهق أمام التلفزيون، فإن المنطقة الفصية الأمامية لأدمغتهم تصبح أكثر سمكاً، وهي المنطقة المعروفة بارتفاع أو انخفاض الذكاء اللفظي. كما وجد العلماء أن هناك أيضاً آثاراً طويلة الأمد تنتج من قراءة الكتب، فالقراءة تبقي العقل في حالة تأهب، وتؤخر التدهور المعرفي لدى كبار السن. وكبار السن الذين يقرأون بانتظام أقل عرضة للإصابة بمرض ألزهايمر مقارنة بالذين يشاهدون عروض التلفزيون بانتظام. كما أثبتت دراسة رعتها جامعة سسكس في بريطانيا أن القراءة لدقائق يومياً تقلل من الضغوط اليومية بنسبة عالية، حتى أكثر من الاستماع إلى الموسيقى أو المشي. كما أن للقراءة علاقة بزيادة مفرداتنا اللفظية، وانتباهنا الذهني، وتزيد من المنطق في تفكيرنا، وهذا عكس ما يحدث مع من يكثر من مشاهدة التلفزيون. ولو طلبنا من أم مثلاً أن تشاهد التلفزيون مع ابنها الصغير، وطلبنا من أخرى أن تقرأ كتاباً مع ابنها، فإننا نجد أن القراءة في الحالة الثانية زادت من نسبة التواصل بينهما، فمن السهولة التوقف عن قراءة فقرة، والتحدث أو التجاوب مع أسئلة ابنها ثم العودة إلى الكتاب، بينما لا يمكن أن يحدث ذلك إن كانت تشاهد شيئاً على التلفزيون، حتى لو كان سخيفاً، فما سيمر لن تتمكن من رؤيته ثانية. جرى تصميم التلفزيون ليكون سلبياً، فلا جهد من جانب المشاهد، والبرامج مصممة لأن تكون سريعة الإيقاع لمنع تبديل القناة. ولكن الكتب، من ناحية أخرى، هي شكل أكثر استباقية من الترفيه والتعلم، فعلى القارئ التركيز على ما يقرأ والتفكير في المفاهيم، كما أننا عندما نقرأ، نضطر غالباً لاستخدام خيالنا لملء الفجوات. كما أن للكتب خاصية التعمق في وصف الحدث. أما كيف يمكن التحول من مدمنين على التلفزيون إلى قراء، فإن هذا ليس بالأمر السهل، ولكنه سؤال مشوق ويستحق التحدي، وقد تكون الإجابة في مزيد من «القراءة»! أحمد الصراف
الارشيف

Back to Top