القضية في داخلي
علاقتي بالفلسطينيين وبقضيتهم بدأت منذ أن وعيت على هذه الدنيا، وتزامنت تقريبا مع بداية نكساتهم، التي عشتها وتأثرت بها. لم يكن هناك في فلسطين يوما دولة وكيان صلب واضح، ورئيس، بل كان هناك فلسطينيون عرب وغيرهم من شعوب تنتمي إلى مختلف المشارب والأعراق والديانات. فقد حكمها المسلمون لخمسمئة عام تقريبا، ثم جاء الصليبيون عام 1095 وبقوا فيها لنصف قرن في سلام قبل أن تأتي جحافل صلاح الدين (1170م) وتقلق راحتهم، ولكنهم بقوا في المنطقة لـ350 عاما قبل ان يعودوا لديارهم في أوروبا. وجاء خروجهم مع بسط الدولة العثمانية لسلطتها على كامل المشرق العربي، ومنه فلسطين. ومع انهيار الدولة العثمانية في بداية القرن العشرين، وتفكك «ممتلكاتها» وفشل ثورة حسين بن على العربية، فرضت بريطانيا هيمنتها على فلسطين من خلال اتفاقية سايكس بيكو، وهذا دفعها عام 1917 لإصدار إعلان أو وعد بلفور المتعلق بمساعدة اليهود في تأسيس دولة لهم في فلسطين، التي لم ينكر أي سياسي يهودي اسمها الأصلي يوما، وهذا ما لا يعرفه الكثيرون. نشطت الحركات الصهيونية الاستيطانية وزادت أعداد المهاجرين اليهود لفلسطين، وزادت في المقابل عمليات بيع العقارات لهم من كبار الملاك، ونسبة كبيرة من هؤلاء كانوا من السوريين واللبنانيين، وجنسيات أخرى إضافة إلى فلسطينيين، ولم يكن أي من هؤلاء يتخيل ما سينتهي الأمر عليه تاليا. استغلت الحركة الصهيونية تشرذم وانقسام العرب والمسلمين، حيث لم تكن لغالبيتهم سيادة تذكر، وسعت لتنفيذ مخططاتها لإقامة كيان يهودي على أرض فلسطين. قاوم الفلسطينيون بشراسة حركة الاستيطان سلاحا وتظاهرات واعتصاما، ولكنهم كانوا بلا قوة حقيقية ولا قيادة موحدة ومستنيرة. بدأت أولى النكسات برفض العرب أو الفلسطينيين قرارات لجنة بيل peel الإنكليزية عام 1936، التي اقترحت إبقاء بيت لحم والناصرة تحت الانتداب البريطاني، وتأسيس دولة يهودية، وضم جزء من فلسطين لإمارة شرق الأردن وتكوين دولة عربية. وكان من الطبيعي أن يرفض العرب قرارات بيل. ثم جاء قرار الأمم المتحدة عام 1947 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية، وخلق وضع دولي للقدس. رفض الفلسطينيون القرار، فأنهت بريطانيا احتلالها لفلسطين يوم 14 مايو 1948، وأعلن اليهود دولتهم في الليلة نفسها، فأرسلت مصر والأردن وسوريا والعراق ولبنان والسعودية قطعانا من جيوشها لتحرير فلسطين فمنيت جميعها بهزائم فادحة، رغم نجاحها في الاحتفاظ بنصف القدس والضفة الغربية كاملة، وحصلت إسرائيل على أراض كبيرة لم يكن قرار التقسيم يشملها اصلا. تدخلت الأمم المتحدة في 10 يونيو 1948 وفرضت وقف القتال، وأعلنت هدنة لا يزال جزء منها باقيا... وسميت المرحلة بالنكبة، وتلتها النكسة في حرب عام 1967، والتي انهزمت فيها جيوش مصر والأردن وسوريا، وتضاعفت مساحة إسرائيل. ثم جاءت اتفاقيات «أوسلو» (1993) بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وجذرت الخلافات العربية أكثر، حيث رفض جزء كبير من العرب والفلسطينيين قراراتها، ومنها وقف الكفاح المسلح، وتأجيل موضوع القدس واللاجئين إلى مفاوضات الحل النهائي. ثم جاء الرفض الرسمي الأخير لصفقة كوشنر، التي أراد منها ربما وضع حل القضية الفلسطينية على السكة. ما أود أن أختم به مقالي هو أن أصحاب القضية الحقيقيين يعيشون، ومنذ أكثر من 70 عاما، في مخيماتهم ومدن شتاتهم، وسجونهم الكبيرة ويواجهون معاناة يومية وكل صعوبات الحياة، ومع هذا، ومنذ عام 1936 لم تحاول أي جهة أن تستمع إليهم أو تأخذ رأيهم من خلال أي استفتاء، ولا ان تمنحهم حق تقرير مصيرهم! هذه هي الحقيقة، وهي سبب كل مصائب الفلسطينيين وامتنا العربية، ذات الرسالة الخالدة، التي لا يعرف أحد شيئا عنها!
أحمد الصراف