تجربتي مع المفتس
مررت قبل عشرين عاما تقريبا بتجربة طريفة لا بأس من ذكرها كمدخل لموضوع المقال. زار مكاتب شركة أمتلكها وأديرها أحد مفتشي البلدية، طالبا الكشف على المواد الغذائية التي نتعامل بها، والتأكد من صلاحيتها للاستهلاك البشري، وطريقة تخزينها وظروف العمالة المشرفة عليها وحيازتهم لشهادات لياقة صحية. وهنا عرضت مصاحبته في جولته، فقبل على مضض، فأخذته لكل المخازن بسيارتي وأطلعته على أماكن لم يكن يعتقد أن فيها مواد غذائية، وطلبت من العمال إحضار رزم وكراتين من تحت الصفوف، ليكشف عليها واحدة واحدة، كما طلبت منهم إبراز هوياتهم وشهاداتهم الصحية ومطابقتها بكشف العاملين، واطلعته على ظروف العمل والتخزين، وسهلت مهمته لأقصى درجة بحيث خامره الشك في نواياي، فشكرني بتردد، وقال إنه عادة ما يقوم بالتفتيش منفردا، ومصاحبتي له حيّرته قليلا، ولم يقل إنني شكّكته في نواياي! وهنا طلبت منه مصاحبتي لمكتبي فوافق، وهناك شكرته وقلت له: ليس في الأمر شيء مريب، فلست أكثر أمانة من غيري ولا أدعي شرفا قد لا أستحقه، ولكن المسألة تتعلق بالمنطق، فقد صحبتك تشجيعا مني لك على أداء عملك، بعد أن أصبح «السوق» يعجّ بكل أفّاق وغشاش أثيم، وأن المخلصين في أعمالهم في تضاؤل مستمر، الغلبة ستكون ربما للحرامي والغشاش في نهاية الأمر، ومن هنا كان ترحيبي به ومساعدتي له في إنجاز مهمته! ففتح فمه غير مدرك ما أرمي إليه بكلامي، فاستطردت قائلا: إن صحتي وصحة أسرتي في يده، وجميعنا نعتمد في صلاحية ما نأكل على مدى إخلاصه في عمله ونظافة يده برفضه لأي رشى أو إغراءات، فأنا أبيع ربما 20 أو 30 صنفا من المواد الغذائية، ولكني أستهلك أضعاف أضعافها من الأصناف الأخرى التي يستوردها ويخزنها ويبيعها غيري! فإن أنا نجحت في دفع رشوة له أو لغيره من المراقبين، ونجحت في تمرير مواد غذائية فاقدة الصلاحية، فإنني حتما سأجني بعضا من المال، ولكن ما هو الضمان من أن غيره من المفتشين لن يحذوا حذوه ويتقاضوا الرشى نفسها من تجار مواد غذائية آخرين ومن اصحاب مطاعم وفنادق ومخابز وغيرها، وبالتالي، فإن ربحت بعض المال هنا، فسأخسر مالا وصحة أكثر هناك! وبالتالي من الضروري تشجيعه، لأنه الضمان الوحيد الذي أعرفه في حمايتي من مواد الآخرين التالفة، وهو «عيني الغذائية» الساهرة! كما أن قيامه بدوره بشكل جيد ضمان له شخصيا ولأسرته! فهو قد يقبل رشوة مني ويسعد بها، إن مرر ووافق على ترخيص بضائع تالفة لي، ولكن ما الذي يضمن له أنه لن يتناول، ربما في اليوم نفسه، المواد الغذائية والأطعمة الفاسدة نفسها التي قبل مبلغا سخيفا للموافقة عليها؟ وما يعنيه ذلك من خسارة مادية وصحية له ولأسرته؟ وبالتالي المسألة ليست أمانة بقدر ما هي منطق عملي! وليس مهما هنا ذكر رد فعل المفتش.
ما نود التطرق إليه من هذه المقدمة الطويلة يتعلق بالحملة الشرسة التي شنتها القبس منذ فترة على تجار ومستوردي المواد الغذائية، وربما لا تزال الحملة مستمرة، والتي صورت فيها البلد كأنه مليء بالحرامية والأفّاقين، وقد تكون هذه هي الحال، ولكن المؤلم أن الصالح عادة ما يذهب مع الطالح، وقد يأتي يوم يصبح الكل سواسية في الغش، ونخسر جميعا.