سواد لبنان القادم لنا
عرفت لبنان، على مدى 66 عاما دون انقطاع، كما لم يعرفه الكثيرون، حتى من أهله. وكان وطنا ثانيا، وأحيانا ثالثا، لي ولغيري، ومميزا في كل شيء، حتى في سلمه وحروبه الأهلية، وتدخله في حروب غيره، وعداواته الدموية الصارخة والقاتلة بعضه لبعض وبعضه مع بعض. يتقاتل أهله نهارا على حاجز الغاليري ويتشاتمون على وقع طلقات الكلاشنكوف، ويلتقون مساء في بار الفاندوم ويتنادمون على قرع الكؤوس.. «كل شي بوقته حلو!!» ما حدث في لبنان واللبنانيين في الأيام القليلة الماضية كان حدثا، أو أحداثا، غير مسبوق أبدا. فللمرة الأولى في تاريخ لبنان تتوقف الحياة تقريبا، وهذا لم يحدث حتى في أحلك ساعات الحرب الأهلية التي امتدت من 1975 وحتى 1990، والتي حضرتُ وعشتُ وكنت في مرات كثيرة في قلب أحداثها، ومع هذا كانت أجزاء كثيرة من لبنان وكأنها ليست من لبنان، برقصها واحتفالاتها وحفلاتها.. وعالمها الآخر، غير البعيد عن مسرح المعارك بأكثر من كيلومترات قليلة!! الأمر اختلف هذه المرة بعد أن أصبح غول الجوع هو الدافع، وبعد أن انزكمت أنوف اللبنانيين بأفسد الروائح وأكثرها خطورة، روائح الزبالة، وروائح فساد معظم الطبقة السياسية، وغيرها من السلطات. فللمرة الأولى يغادر أبناء كل المناطق بيوتهم، للمشاركة في التظاهرات، وهذا لم يحدث حتى في الأحداث التي سبقت وأدت لخروج الجيش السوري من لبنان، أما بقية الأهالي، وأيضا من دون استثناء، فقد التصقوا بأجهزة التلفزيون لمتابعة تظاهرات أبنائهم وفلذات أكبادهم في الشوارع ضد السرقات والسراق. نعم، لم يشهد لبنان منذ 1960 مثل هذا الوضع الأخلاقي الفاسد لما يشبه معظم الطبقة السياسية. كما لم يواجه لبنان في أحلك ظروفه، ومع كل حروبه الأهلية وضعاً اقتصادياً وسياسياً ونقدياً واجتماعياً بمثل هذا السوء والتردي. كما لم يعرف لبنان في تاريخه الحديث، حسب علمي، مثل هذا الاستهتار من معظم سياسييه بكامل الشعب اللبناني، بعد أن أصبح هؤلاء السياسيون في الأسابيع الأخيرة يتصرفون وكأن لبنان سينتهي قريبا، وعلى من يستطيع سرقته القيام بذلك قبل أن تنقلب الطاولة عليهم. فكيف يقدم مسؤول على استدعاء شركة أجنبية لفرض «ضرائب» تصل لأكثر من مئتي مليون دولار، على خدمة مجانية كالواتس أب؟ وفوق ذلك يذهب نصف ما يجري تحصيله من «ضرائب» ربما لجيوب مسؤولين كبار؟ وكأن ما يواجهه المواطن اللبناني وما يعانيه كل يوم من طرقات خربة ومقطوعة وأزمة مرور خانقة، وأقساط مدارس متصاعدة، وكهرباء مقطوعة، ومياه ملوثة وزبالة متراكمة، وليرة مهددة بالانهيار ليس بالكافي!. خلاصة الأمر أن وضع لبنان هو من صنع يد أهله وليس فقط سياسييه. فقد دأب الكل تقريبا على انتخاب وإعادة انتخاب نفس «القرطة» عاما بعد آخر. وعلى هؤلاء الذين خلقوا هذا الواقع دفع الثمن غاليا للتكفير عما اقترفته أيديهم. فقد باع الكثيرون أمن وطنهم ومصيره ومستقبله من أجل الحصول على وظيفة، أو ترقية أو صفقة، أو إسقاط مخالفة، أو وقف تنفيذ حكم. واختزل هؤلاء الوطن في الطائفة أو الحزب الذي أمّن لهم لقمة العيش والوظيفة والترقية، فأعادوا انتخاب ممثليه وزعمائه المرة تلو المرة، غير مدركين أن هؤلاء الذين أخذوا الوظيفة من غيرهم وأعطوها لهم، على استعداد لأخذ الوطن منهم وبيعه لغيرهم. وما حصل في لبنان قابل لأن يحصل في الكويت، إن لم ننتبه ونتعظ. وينقل عن الحوت قوله «متباهيا»، إنه رشح نفسه في الثانية فنجح، انتقل للثالثة ورشح نفسه فنجح، انتقل ورشح نفسه في الرابعة ونجح! ولكن لو أوقفت الحكومة «حنفية موافقاتها» عنه فهل كان سينجح أصلا؟!
***
مع تزايد استجوابات وزيرة الاشغال، الأفضل في تاريخ الوزارة، فإنني لا أستبعد وقوف بعض قوى الفساد وراء بعض الاستجوابات. فبرحيلها سيرفع الحضر عنهم وعن مكاتبهم الخربة!
أحمد الصراف