دروس وعبر لمن يتعلم ويعتبر
عندما كان العالم مجموعة قارات متناثرة لا اتصال موحداً بينها، كان نشوب حريق هائل في إحداها لا يؤثر أبداً في بقيتها. ولكن بعد أن أصبح العالم «قرية صغيرة» فإن انقطاع الحرارة عن الإنترنت يؤثر فيها جميعا. لم يمر البشر في العصر الحديث بكارثة اجتماعية واقتصادية بحجم كارثة كورونا الحالية، وغير المسبوقة بكل المقاييس. فقد أصبحت محاولة الحد من أخطارها تجربة صعبة لأية حكومة، وتحدياً هائلاً لقدراتها في التعامل مع الكوارث. كما لم تعرف أسواق المال العالمية مثل هذه الانهيارات، في فترات قصيرة لم تتعدَّ الدقائق، حتى في الحروب العالمية. كما إن النفط، الذي عرف العالم أهميته الاستراتيجية والحيوية القصوى مع بداية الحرب العالمية الثانية، لم يعرف تدهورا في أسعاره بهذا التسارع غير المسبوق. وللمرة الأولى في التاريخ الحديث، يلغي مئات ملايين السياح رحلاتهم، وما يماثل ضعفهم من الرحلات بغرض التجارة أو غيرها، وما يعنيه ذلك من أثر سلبي في حركة الطيران والفنادق والنقل الأرضي والمطاعم، وكل ما يتعلق بهذين القطاعين من خدمات متنوعة ومعقدة. كما هبطت فوائد الخصم، وفوائد الودائع بالتبعية، التي تشكل المورد الوحيد لملايين الأسر، وانهارت السياحة الدينية، وألغيت حفلات الزفاف، والعزاء، وجميع الأنشطة الرياضية، والمعارض الدولية، والمؤتمرات، وأصبحت الأسر مجبرة على الالتزام بمنازلها حول التلفزيون، أو الاختلاء بهواتفها المحمولة. كما قامت بضع دول بإخلاء سجونها من مرتكبي الجرائم البسيطة، لمنع انتشار العدوى بين المساجين، وتوقفت الدراسة في المدارس والجامعات والمعاهد في أكثر من نصف العالم، وتغيرت عادات التحية والسلام، وتوقف «مهرجان» القبلات، وانهارت صناعات وخدمات، ولم ينجُ من الكارثة، حتى الآن، غير مُصنّعي الأدوية والمستلزمات الطبية ومواد التعقيم والتطهير والكمامات والكفوف، والأطباء وأصحاب المستشفيات.. ومتعهدي الدفن. كما ستتأثر، بعمق أكبر الكثير من القطاعات المالية كالمصارف، التي ستنكمش إيراداتها، وستتقلص أعمال شركات مقاولات البناء والتوريد والنقل، مع توقف الكثير من الأنشطة الحيوية الأخرى وتقلصها.
***
هذا على الجانب السيئ أو الكارثي، أما على الجانب الجيد، أو الإيجابي، إن صح التعبير، فهو جدير بالالتفات. فبالرغم من أن انهيار أسعار النفط شكّل كارثة للدول النفطية التي تعتمد على بيعه بشكل كلي، فإنه أصبح بإمكان غالبية دول العالم الحصول على وقود رخيص. كما أدرك العالم أجمع، من خلال تجربة مؤلمة جدا، كلفت الاقتصاد العالمي عشرات مليارات الدولارات، هذا غير الخسائر البشرية، أدرك خطورة التهاون في مسألة الأسلحة الجرثومية، وخطورة إجراء التجارب المخبرية عليها، فتأثيراتها أشد فتكا من أقوى القنابل النووية. كما عرفت الدول، الكبرى بالذات، مدى هشاشة أنظمتها الدفاعية أمام مثل هذه الكوارث، وهذا سيدفعها مستقبلا لوضع اتفاقيات تضمن سلامة المجتمع الدولي أمام مثل هذه الأخطار الجديدة. كما عرف العالم خطورة الاعتماد على دولة أو مصدر واحد لكل، او غالبية، صناعاتها أو احتياجاتنا، وضرورة تنويع مصادرها، حتى لو كانت التكلفة أعلى قليلا. كما إن حظ البشرية ربما كان هذه المرة جيدا، لأن فايروس كورونا الجديد ليس بالفتاك مقارنة بفيروس سارس وأيبولا و«الفيروس المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية»، والذي ينتج عن مخالطة البشر للجِمال، لأن نسب وفيات هذه الفيروسات مرتفعة جدا مقارنة بفيروس كورونا الجديد. وهذا يتطلب منها بذل جهود أكبر للتوصل لمصل مضاد، وعدم الاستهانة بمثل هذه الأوبئة مستقبلا. volume 0% اما الجانب الإيجابي الأخير، بنظرنا، فيتعلق بحاجة كوكبنا للتنفس. فتوقف ملايين الرحلات الجوية والبحرية، وتوقف أضعاف ذلك من المركبات والشاحنات والآلات والمحركات، التي تدار بالطاقة والفحم، وما كانت تصدره من أدخنة سامة، سيعطي أُمّنا الطبيعة فرصة هي في أمسّ الحاجة إليها للتخلص من كل ذلك الكم الهائل من المواد الملوثة، التي تملأ الفضاء من حولنا وتسبب تلف غلاف الأرض الجوي. وأخيرا، يعتقد كبار السياسيين والخبراء أن عدد المصابين بالفايروس سيرتفع كثيرا. وبالتالي ندعو مخلصين الجميع بالتوقف عن السلام باليد، وإلغاء كل مناسبات الفرح أو العزاء، وحتى لقاءات الديوانية الودية.
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw