اللهم فرّق شملنا
أرسل لي صديق (عربي مسيحي) طرفة أوحت لي بفكرة هذا المقال، ولا يعني ذلك أنني أشكو من نقص في الموضوعات التي أود الكتابة عنها (!)، ولكن «الظروف الصعبة» التي نمر بها، وما أكثر هذه الظروف، التي لا تكاد تنتهي إلا لتبدأ من جديد. فقد عشتها منذ حرب السويس، مرورا بعشرات الانقلابات والكوارث والحروب والنكبات، وصولا للحجية «كورونا»، التي عفست حياتنا «عفاسا»، وجعلت أعزة القوم بلا عزة، والكرام بلا كرم، وأصبح الجميع يردد مقولة «اللهم نفسي»!
***
يقول الصديق انه رفع سماعة الهاتف، وهو في ألمانيا، حيث يعمل ويعيش، ليبارك لوالديه بالعيد، وهم نزلاء الفندق الجبلي الصغير الذي اختاروه طوعا لقضاء ما تبقى من حياتهم فيه، مع البعض من رفاق دربهم. ثم اتصل صاحبنا بأخيه في السعودية ليعايده. وتلقى مكالمة من أخيه الأصغر من مصر، التي يملك فيها شركة تبغ، ثم اتصل بأخته الكبرى التي تعيش في دمشق، حيث يعيش زوجها، وعايد اخته الوسطى التي أصبحت تعيش في هولندا، بعد ان حصلت على اللجوء ومع اللجوء وظيفة مرموقة في مختبر كيميائي حكومي معروف. ويقول إنه حاول الاتصال بأخيه الآخر، الذي يعيش في بريطانيا، لكنه فشل في التحدث معه، بسبب انشغاله، حتى خلال فترة العيد، وعطلة نهاية الأسبوع، في إنتاج الكمامات، بعد أن حول مصنع الأقمشة الصغير الذي يملكه لورشة كبيرة لتلبية الطلب الضخم على كماماته. وتلقى اتصالا من ابنه حيث يدرس في جامعة السوربون بفرنسا، الدولة التي عشقها، ونال جنسيتها، وعرضت عليه حكومتها منحة دراسية فيها لتفوقه. واستطرد قائلا إن ابنته تعيش في تركيا، حيث لجأت إليها، وبالرغم من أنها حصلت على عروض عمل في السويد، فإنها اختارت العيش في بلد قريب في عاداته وطعامه وطقسه لما تحب. ويكمل الصديق بأن لديه قائمة طويلة من الأهل والأصحاب الذين يرغب في الاتصال بهم. فالخال «كمال» يعيش في كندا، والعم «سعد» يعمل ويعيش في بوسطن، وعمه الآخر «غسان» يعمل في الكويت. انتهى من الاتصال بهم جميعا، وتبين له أنهم كانوا في أفضل حال، صحة ومالا وعملا ومستقبلا وراحة نفسية، قانعين بأنهم أحسن حالا وهم متفرقون، من أن يكونوا عكس ذلك وهم مجتمعون. وفجأة تذكر صديقي شيئا، وتساءل: ما الذي كان سيكون عليه حالهم، صحة ومالا وراحة نفسية وعملا ومستقبلا، لولا ذلك الدعاء. فقد وعوا جميعا، في حيهم المسيحي الصغير، ومنذ نعومة أظفارهم، على الشعور بالكثير من الأسى وهم يسمعون صوت مؤذن الحي يأتيهم كل جمعة، داعيا بصوت جهوري: اللهم شتت شملهم! وكانوا يشعرون بأسى أكبر وهم يسمعون إجابة المصلين على دعائه، التي كانت تهز جدران بيوت الحي المتواضعة: آمييين! لكنه اليوم يشعر بالامتنان لدعاء ذلك الإمام، فلولاه لكان عدد ممن فكر في الاتصال بهم اليوم منسيين أو موتى او في المعتقلات، وآخرون ربما فقدوا أرواحهم تحت العجلات، وثالث مفقودا في المخيمات، ورابع يقبع في السجون من دون محاكمات، وخامس عاطلا يبحث عن عمل غير موجود، وسادس سارحا في أفكاره بين والد مريض وابن معتقل وابنة عانس وابن بلا مدرسة ولا مستقبل، وثامن ينتظر لحظة الهروب لأي مخيم أو مركب يقله لعالم آخر.
فشكرا لذلك الإمام الذي دعا أن يفرق شملهم!
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw