والدي.. المعلم الصامت!
بعد 93 عاماً، ومرض لم يطل كثيراً تعلق غالباً بكبر السن، غادر دنيانا فجر السبت «والدنا» آسفاً عليها، وسنغادرها من بعده، طال الأجل أم قصر! أحب والدي الحياة بكل معانيها، وأحب الموسيقى والطرب الجميل، وكان مستقيماً في تجارته وتعامله مع الناس، ومنه تعلمت أشياء كثيرة، وغالباً بطريقة غير مباشرة. لم يكن والدي أباً مثالياً ولم يكترث يوماً لإرشادنا للطريق الصحيح، أو أن يقضي وقته معنا ليبين لنا الصالح من الطالح، وإسداء النصائح، بل كان يكتفي بالتصرف السليم، وترك الباقي لنا. صاحبته صغيراً في محل الصرافة الذي كان يملكه ويديره مع جدي. وكنت أشاهد كل يوم طريقة تعامل الآخرين معهما، ووضع أماناتهم لديهما. فقد كان البدو مثلاً يأتون من البادية بما لديهم من مشغولات ومصنوعات، ويبيعونها داخل المدن، ويعودون للبادية بعدها بما اشتروه بالمال من حاجيات. وكان البعض منهم يمكث ليوم أو أكثر في المدينة، ولم يكونوا يأمنون النوم في العراء ومعهم أموالهم، فكانوا يودعونها لدى الصرافين، الذين اشتهروا ليس بالأمانة فقط، بل وبما لديهم من خزائن حديدية «مطمئنة». وكان البعض يترك أمانته من النقد لديهم للموسم التالي. هذا التصرف الصامت المتسم بالأمانة واحترام حقوق الغير، والمحافظة على السمعة يكون له غالباً أثر بالغ يزيد عن النصيحة المباشرة، ولهذا أدين لوالدي بالكثير بالرغم من أن علاقتي به ضعفت كثيراً بعد استقلال حياتي. استمرت مصاحبتي له في محل الصرافة بعد انتقاله وجدي للعمل في تجارة المواد الغذائية بالجملة، التي كانوا يستوردونها ويقومون ببيعها إما لتجار أصغر حجماً وأقل إمكانيات، أو لمحال البقالة والمخابز والبيوت. وكنت أقضي كل العطل تقريباً في المحل، رائحاً وغادياً لعشرات المرات في اليوم بين المعرض والمخزن. تعلمت من والدي حب الأناقة، ولكن لم أستطع مجاراته يوماً، إلى أن كبر وتغير ذوقه لشيء مرعب. كان يحرص على أن تكون دشاديشه (اللباس الوطني) مفصلة من القماش «اللاس»، الغالي الثمن نسبياً. وكان يحرص ان تكون أرديته مكوية بشكل جيد. وكان مولعاً بارتداء أزرار الأكمام الخاصة cufflinks، والإكثار من استخدام العطور، التي لم أكن أستسيغ كثيراً رائحتها. تعلمنا منه، ونحن صغار، عادة تناول الخضار الطازجة، التي أصبحت جزءاً من عاداتنا، وأفادتنا صحياً بشكل كبير. وبالرغم من كل ما كنت أشعر به من قلة تأثيره «الإيجابي» علي، وضعف علاقتي به في السنوات الأخيرة، إلا أن بإمكاني التأكيد الآن والقول بأني مدين له بأمور عدة كان لها أبلغ الأثر في حياتي: فقد حببني بالقراءة من دون أن يشتري لي كتاباً واحداً في حياته، فلم أره يوماً إلا وكتاب أو مجلة رصينة في يده، وهذا دفعني لتقليده وتعلم الكثير، حتى قبل أن أبلغ سني المراهقة. وكنت أراه يذهب على دراجته، وبعدها بسيارته «الموريس» للمعهد البريطاني في منطقة «القبلة» لكي يتعلم الإنكليزية، وتوفي من دون أن يتقنها، حتى بعد أكثر من ستين عاماً. فقد كان بحاجة لتعلمها لمعرفة ما كان المحاسب أو الطباع الهندي لديه يكتبه من مراسلات مع الشركات الأجنبية التي كان يستورد المواد الغذائية منها. كما كان يعاشر نخبة جميلة من الأصحاب «الزقرت» من أمثاله، وكان أحياناً يأخذني معهم لـ«الكشتة» أو الرحلات البرية، وكان غالبيتهم من كبار موظفي وزارات الدولة حينها وأتذكر منهم أحمد الشميس، وإبراهيم بوقريص، ومحمود العوضي، والطيار حمد السمدان، والعم «حجي المزين»، وجميعهم توفوا ولم يتبق إلا الأخير الذي نتمنى له العمر الطويل. كما أخذني معه للمرة الأولى إلى لبنان، وكان ذلك عام 1956، وأسكنني في بيت أصدقائه من عائلة «البدر»، جبلة، وربما كان اسمه الأول محمد، ومن مصاهري «الصرعاوي»، وكان البيت كبيراً في بحمدون الضيعة، ولكنه كان يفضل ورفاقه السكن في فندق في المحطة. كان هو وجدي يساعدان دور العبادة في مناسبات عاشوراء، بالمال والمواد الغذائية، ولكن الاثنين لم يكونا يطيقان معاشرة رجال الدين، ومن كانوا يأتون للمحل لأخذ «حق جدهما»، عنوة أحياناً، وربما اكتسبت الشيء نفسه منهما، فلم أتعصب لجهة أو أحابي واحدة على أخرى بل أحببت الجميع وصادقت الجميع، وبقي معي من قبلني كما أنا ورحل عني من كره طريقتي. تذكرت كل هذه الأمور وأنا أنتظر ترتيبات الدفن، وانتابني الحزن لأنه تركنا من دون أن أقول له، عندما كان بكامل وعيه، كم كنت ممتناً له، فقد تعلمت منه أموراً حيوية كثيرة، من دون اللجوء للتلقين الفارغ، بل بالتصرف العاقل، وهي طريقة تربية أصعب بكثير من إلقاء المواعظ، وغالباً التصرف عكسها.
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw