ذكريات 10 أغسطس 1990 (2 - 4)
بعد تأخير طال قليلا على الحدود السعودية، اتجهنا لمدينة «حفر الباطن» الصحراوية لتناول شيء من المرطبات، وتعبئة سياراتنا بالوقود، لكي تتجه كل عائلة في طريقها بعد الوصول لبر الأمان في المملكة، بعيدا عن قبضة صدام القذرة. فوجئنا بأن لا أحد في المدينة يقبل بالدينار عملة سداد. طلبوا الريال أو الدولار. وجاء المنقذ في صورة «بطاقة الائتمان» التي كنت أحملها. ولكننا كنا بحاجة لريالات سعودية، فغالبية الأمور لا تتم بالبطاقة في مدينة صحراوية. أخبرونا أن البنوك ستفتح في الرابعة عصرا، وكان أمامنا أكثر من ساعتين. جلسنا في أحد المقاهي، وكانت معي إحدى شقيقاتي وزوجها وابناهما وأسرتي إضافة لوالدي. بدأنا بإجراء الاتصالات بحثا عن فندق نقيم به في العاصمة الرياض، ولكن جهودنا ضاعت كلها، وفجأة تذكرت زوجتي أن ابن عمها يمثل الحريري في أعماله، وأنه يقطن في فندق الشيراتون، فقمنا بالاتصال به فتبين، لحسن الحظ، أنه في إجازة بلندن، فتنازل لنا عن غرفته في الفندق. بقيت امامنا مشكلة التزود بالوقود، وبالتالي كان علينا الانتظار للرابعة وشراء الريالات قبل الانطلاق للرياض. أتت المفاجأة السارة بعد دقائق عندما أخبرونا أن التعليمات صدرت بتوفير الوقود للسيارات التي تحمل أرقاما كويتية مجانا! كانت تلك أول مبادرة كرم من المملكة اتجاهنا، وتبعتها أخرى كثيرة. انتهى المطاف بنا بعد أكثر من 14 ساعة في فندق شيراتون العليا في الرياض، وكانت سعادة الوصول لمكان بارد ونظيف ومريح وآمن ومعدة ممتلئة شيئا لا يمكن تصوره. بعد يومين من وصولي التقيت مصادفة بالصديق السفير أحمد الفهد، الذي أبدى سروره لرؤيتي، وقال إنه يتمنى زيارته في السفارة لرغبته في الاستعانة بي، بحكم خلفيتي التجارية، لتولي مهمة إيجاد سكن لبعض الأسر الكويتية اللاجئة، التي لا ترغب بالسكن في الفنادق. تلقفت العرض فقد كنت في أمس الحاجة للقيام بما يشغلني. ولكن مع تزايد أعداد «اللاجئين الكويتيين»، وتوقع تدفق المزيد، فقد تغير الاتجاه من فكرة إيجاد شقق مفروشة، إلى تكوين لجان في مختلف المناطق لتولي مهمة دفع مبالغ نقدية لكل أسرة لتدبر أمور سكنها وطعامها وبقية احتياجاتها. اجتمعت اللجنة، ولا أتذكر كيف تكونت ومن جمعها، في مكتب السفير عبدالله بشارة، أمين عام مجلس التعاون، حينها، للتنسيق بين أعضائها، وبعدها أصبحنا نلتقي في سفارتنا، قبل أن تمنحنا بلدية الرياض مقصورة استاد «الملز»، والذي لم يدشن بعد، كمقر للجنة. بدأنا عملنا الشاق فورا بشراء كمبيوترات وآلات حاسبة وقرطاسية وتصميم وطباعة نماذج الصرف، والأهم من ذلك وضع قواعد وترتيبات الدفع لعشرات الآلاف، ولم نعلم بأن العدد في النهاية سيتجاوز المئة ألف. كان المواطنون يجتمعون منذ ساعات الصباح الأولى على أرض الاستاد المفروشة بالعشب الأخضر بأرديتهم البيضاء وأغطية رؤوسهم الحمراء، في غالبها. كان منظرهم مثيرا بالفعل، وذا معنى عميق. بدأت الأعداد بالتزايد، وأصوات الاحتجاج بالارتفاع تذمرا من تأخرنا في الصرف. وكان ضغط الأجساد يزداد عل الأبواب المغلقة حيث تتواجد اللجنة، وأصبحنا نسمع مطالباتهم: «عطونا المعونة، ما هي فلوسكم، عطونا حقوقنا».. وغير ذلك. ومع زيادة الضغط اختصرنا بعض الخطوات، وتخلينا عن حذرنا وبدأنا الدفع، حيث حددنا مبلغا يقارب الـ1250 ديناراً لكل أسرة لمواجهة الضروري من الأمور، ومبلغا آخر كمعونة شهرية، وتلقيت بالفعل شيكا من الحكومة (في المنفى) بمبلغ ثمانين مليون دولار كدفعة أولى لمواجهة أعباء اللجنة، أودعته لدى بنك الراجحي، مع حق التوقيع، مجتمعين مع الصديق الراحل حمد النخيلان، الذي لا أنسى مواقفه وأمانته. كما لا أنسى ما قاله يومها خالد المعوشرجي، وهو ينظر من المقصورة للجموع التي تفترش الملعب بانتظار استدعائها لتسلم المعونة، حيث قال بالحرف: شوف يا بوطارق، احنا قاعدين نضبط الأمور بحيث نمنع الغش والتلاعب في الدفع، وهؤلاء قاعدين يفكرون في كيفية التلاعب علينا! تبين لاحقا أنه كان صائبا في حدسه. وإلى مقال الغد.
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw