تغريدتي والعقل العربي
غرّدت قبل أيام بالتالي: اتصلت هاتفياً بتسعة من أكبر زعماء لبنان، بينهم رئيسا الجمهورية والوزراء. عرضت التبرع بمبلغ 25 مليار دولار لإصلاح الميناء وتشغيل الكهرباء 24/7 لكل لبنان، وإصلاح الطرقات وتعويض المتضررين، وتوفير مياه الشرب، وتعويم البنوك، كل ذلك مقابل استقالاتهم الجماعية.. رفضت الأغلبية العرض!
***
اشتعلت وسائل التواصل في لبنان، معلّقة على التغريدة، والأغلبية مصدقة بأنني قمت بالفعل بالاتصال برئيس الجمهورية اللبنانية، وتفاوضت معه على الاستقالة، وشكرني الرئيس على كريم تبرعي، ورفض العرض، لأنه رئيس شرعي منتخب، وليس من حقه الاستقالة بناء على طلب مواطن «أجنبي»! كما صدقت جماهير الأمة أنني قمت بالفعل بتكرار المسرحية نفسها مع بقية الزعماء، وأنني كنت سأقوم بالفعل بالتبرع بذلك المبلغ الخيالي، ما يعني امتلاكي لعشرة أضعافه، وهذا يجعلني ليس فقط أغنى رجل في العالم، بل في تاريخ البشرية. فكيف صدق هؤلاء روايتي علماً بأنه لا أحد سمع باسمي من قبل سوى قلة تقرأ ما أكتب، فهل من يملك 250 ملياراً لديه الوقت لكتابة المقالات اليومية، وإرسال التغريدات كل ساعة؟ يقول فولتير: لا مشكلة تستطيع الصمود أمام هجوم التفكير المتواصل. فلو كلَّف من صدق تغريدتي نفسه وفكر في حقيقة مضمونها لرفضها، أو ضحك مما تضمنته من سخرية وإيحاء مبطن بأن مصلحة الأوطان ليست دائماً نصب أعين الزعماء، بل تأتي مصالحهم الشخصية وأمنهم قبلها، والتي لا يمكن أن تتحقق بغير بقائهم في السلطة، فهذا يحصنهم من المساءلة، في مثل هذه الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان. يقول المفكر محمد عابد الجابري: إن العقل العربي يفكر بطريقة معيارية، أي إنه يَختزل الأشياء في قيمتها فتضيق ولا يبقى لها مجال للتحليل أو بعد النظر. إنه قليل ما يتمكن من فعل العكس وهو التفكير بطريقة موضوعية وتحليل الأشياء من حوله! وبالتالي، يصعب عليّ فهم كيف صدق الناس تغريدتي بالرغم من عدم الواقعية التي تضمنتها، فهل يعود الأمر إلى حالة اليأس التي أصابتهم، بحيث أصبحوا على استعداد لتصديق أي شيء حتى لو كان خبراً عن استعداد من لم يسمع العالم به التبرع للبنان بـ25 ألف مليون دولار! ومن يضمن جديتي والتزامي بمثل هذا التعهد، إن استقال الرؤساء؟ وكيف نجحت في التحدث مع رئيسَي الجمهورية والوزارة، وبقية الزعماء اللبنانيين؟ وكيف صدق شيبوب تغريدتي، وغرّد مستغرباً ملكيتي لذلك المبلغ؟ كما وصفني أحد كبار مسؤولي جمعية خيرية «بالكاذب»! غير مدرك أن كذبي قد يكون له علاج يوماً ما. أما «الحمق»، فلا علاج له! كما أن تصديق التغريدة بيّن عجز حتى «متعلمينا» عن تحليل أي خبر، فمن صدَّقها هو نفسه الذي صدَّق تغريدة الإخواني «أحمد منصور»، مذيع الجزيرة بأن «الأتراك» العثمانيين هم من شيدوا صوامع بيروت قبل 150 أو 200 عام! وهذه نكتة، فقد بنتها أموال كويتية عام 1968، والعثمانيون لم يتركوا أي أثر حضاري في لبنان أصلاً، وأول صومعة كونكريت بنيت في العالم كانت في عام 1891! كما كان مثيراً للشفقة مسارعة رئاسة الوزارة اللبنانية لإصدار بيان نفي عن اتصالي بها وعرض التبرع بمبلغ 25 مليااااررر دولار، من دون أن يرد في النفي أي شيء عن شرط الاستقالة.. وبعدها بيومين استقال الرئيس بنفسه! ملاحظة: لفت الصديق خليفة الخرافي نظري إلى حقيقة مهمة فاتني التطرق إليها في مقال الخميس. فإضافة إلى نتائج التحرير الباهرة، فقد تم ترسيم حدود الكويت مع العراق بصورة نهائية، بعد نصف قرن من المضايقات والابتزاز.
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw