مقاطعة الغباء
أي خلاف بين دولتين أو طرفين، وينتج عنه مقاطعة بعضهما لبعض ستتسبب عادة في الاضرار بالطرفين، وإن بنسب متفاوتة. فالطرف الأكثر عاطفة والاقل استعمالا لعقله ستكون خسارته أكبر.. عادة! كما أن المقاطعة لن تجدي إن لم تكن شبه جماعية، أفرادا ومؤسسات ودولة، وبخلاف ذلك تصبح انتقائية، ومضحكة! فرنسا دولة عظمى وتصنع وتصدر منتجات لا تخطر على البال، وبالأمس تسلمت خطوط الدولة «الوطنية» طائرات الإيرباص الجديدة المصنوعة في تولوز الفرنسية، فهل سنضعها على الرف، بناء على طلب غلاة دعاة المعارضة، الذين لم يتخلص غالبيتهم من الأجبان الفرنسية في براداتهم؟ ما جدوى مقاطعة بضعة منتجات نجدها على رفوف الجمعيات، ونتسبب في الاضرار بالمستورد المحلي، ونتناسى أن هناك مئات الأصناف الأخرى التي لا يمكن حتى أن يفكر أقلنا عقلا بمقاطعتها! فهل سنعيد طائرات الرافال المقاتلة لفرنسا، ونخسر عشرات المليارات، أم سنكتفي بمقاطعة كل المركبات والمعدات والمحركات الصناعية والسيارات التي تنتجها فرنسا، أو نقوم بإتلاف عشرات ملايين البطاقات المدنية والمصرفية لأنها تصنع في فرنسا؟ وماذا عن السمات السرية التي توضع ضمن أوراق النقد، وجوازات السفر والجنسية التي تطبع فيها؟ فرنسا ليست عطورا رائعة وأحذية مريحة وحقائب يد وملابس فاخرة ومنتجات نسائية وأدوات تجميل فحسب، بل هي المكان الأفضل لعلاج مرضى السرطان، وهي التي استعانت السعودية بقواتها الخاصة في القضاء على حركة جهيمان في الحرم المكي. وفرنسا هي الأكثر تميزا في مجال الاستخبارات، والتعاون معها في هذا المجال ضروري جدا، سواء فيما يتعلق بالمعلومات أو الأجهزة التي تمنع الاختراق والتنصت والتخابر وأمور كثيرة أخرى في غاية السرية التي لا يمكن التخلي عنها بسهولة، ولكنها تتحرك تحت السطح وذات أهمية خارقة لأمن أية دولة، فكيف لدولة بمثل وضعنا الأمني الهش. المسألة ليست «انتصارا لكرامتنا ودفاعا عن رموزنا»، بل منطقا وتصرفا سليما. فمن يدعي أن إطلاق صيحة «الله أكبر» وطعن مواطن فرنسي في صيدلية أو مدرسة او كنيسة أو قطع رأسه، ستعيد الكرامة لنا وتحصن رموزنا لا شك يعيش في عصور لا علاقة لها بالواقع. فتعدي شخص على والد أحد منا وشتمه وإهانته لا تكون بأخذ الأمر بأيدينا وجز رقبة المعتدي كالخراف أمام طلبته وأبنائه، بل بالاقتصاص منه بالطرق القانونية، كما فعل اليهود مع كل من سخر من معتقداتهم، أو أنكر وقوع مذابح الهولوكست، وتصرف معهم بنذالة. كما أن الانتصار لمقدساتنا يكون فعالا عندما نهذب من أخلاقنا ونقلل من درجة الحقد على الغير في قلوبنا ونتعلم شيئا ونصنع أشياء ونكتفي ذاتيا، فماذا تغير في دولنا ونفوسنا منذ نشر الرسوم الدنماركية قبل عشر سنوات؟ لا شيء! بل تخلفنا أكثر وأصبحنا نعتمد على الغير أكثر وأكثر، ولم نزدد ثراء إلا في ميادين الجهل وساحات التعصب، وهذا بالضبط ما يسعد أعداءنا، فهل نتعلم شيئا من دروس التاريخ، وما أكثرها؟ الانتصار لرموزنا يكون بمقاطعة العجز والغباء، وليس بمقاطعة الدول الكبرى.. ونحن بكل هذا الضعف!
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw