الإرث العظيم والتبرير الكريم
نشر مقال في «صدى البلد» المقدسية الإلكترونية بعنوان «الجامعات الأميركية وفيروس الكورونا»، ولأهميته المبكية وجدت من المفيد تسليطي الضوء عليه، بتصرف: خطفت جامعة «جونز هوبكنز» الأميركية وأخواتها إرث العلم البحثي من جامعات برلين وجوتنجن، وجعلت أميركا تحكم العالم؟ وما نقرأه اليوم من أرقام وأخبار عن فيروس الكورونا تصدر جميعها عن جامعة «جونز هوبكنز»! ففي عام 1636، وبينما العالم العربي والإسلامي محكوم بالخلافة العثمانية «غير المجيدة»، بكل جمودها وتخلفها، تأسست جامعة «هارفارد» في أميركا. وتأسست بعدها كلية «وليام وماري». وفي القرن 18 تأسست جامعة «ييل»، وبعدها بنصف قرن تأسست برنستون وكولومبيا وبنسلفانيا. كان تأسيس هذه الجامعات بداية حقبة مهمة في العالم الجديد، والتي توجت بتأسيس جامعة «جونز هوبكنز» عام 1876، ومثلت بداية انطلاق الولايات المتحدة كقوة عظمى قادمة بفضل تأسيس نمط جديد من الجامعات البحثية، التي تهدف الى البحث والعلم والناتج المعرفي والإنتاج الصناعي، والعائد الاقتصادي، وليس تخريج الطلاب. وأصبحت الجامعات أكبر من دول عدة! بداية «جونز هوبكنز» كانت بتبرع من المؤسس «هوبكنز»، وبقي الأعلى حتى فاقه عام 2018 تبرع رجل الأعمال المعاصر «مايكل بلومبيرغ» بمبلغ مليار دولار للجامعة نفسها، التي سبق أن تخرج فيها، وهو التبرع العلمي الأكبر في تاريخ العالم، وخصص لدفع رسوم الطلبة الموهوبين غير القادرين على الرسوم السنوية التي تبلغ تقريبا 70 ألف دولار. يروي عالم الاجتماع الأميركي جوناثان كول في كتابه «جامعات عظيمة»، كيف تحوّل الهدف فيها من التعليم إلى إنتاج المعرفة، والاستمرار في اكتشاف أنواع جديدة منها، هذا ان أرادت واشنطن أن تحافظ على قيادة اقتصاد العالم في القرن الحالي. لقد أدركت الجامعات البحثية مبكرا ان مهمتها تكمن في تقديم الاكتشافات العلمية والأبحاث المنتجة، للمؤسسات، وإعداد الشباب ليكونوا قادةً في البحث والعلم، وهذا ما جعل الجامعات الكبرى أساس تقدم أميركا. ويذكر أن فكرة «الجامعات البحثية» سبق أن نقلت من ألمانيا. فحين بدأت جامعة هارفارد عام 1636 كانت ذات نزعة دينية، ولكن العالم بنيامين فرانكلين غيّر منهجها وجعله بعيداً عن الأهداف الكنسية، واعتمد العلوم والدراسات العملية، فهل هناك أمل في أن نفهم شيئا من هذا الكلام؟ وكان فرانكلين، إضافة الى جونز هوبكنز، ودانيال جيلمان، الثلاثة الكبار الذين تدين لهم أميركا بتقدمها، كونهم رواد الجامعات البحثية. فتأسيسها كان الحدث الأهم في تاريخ نصف الكرة الغربي. وكان هناك دوماً خطّان متوازيان، رجال الأعمال وقادة الجامعات. فقد كانت هناك جامعة روكفلر، التي وقف خلفها عملاق النفط. وكان ملياردير الحديد «أندرو كارنيغي» وراء تأسيس «كارنيغي» البحثية. وكان «واشنطن ديوك»، ملك التبغ، وراء تأسيس جامعة «ديوك». لم يكن هدف مؤسسي هذه الجامعات الربح، ولا تخريج طلاب، بل خلق قادة في كل مجال، ومن هنا جاء التحالف الرائع بين نموذجين من الوعي أدّى إلى تأسيس القوة الأميركية المعاصرة. إن معظم الإنتاج الجديد في أميركا جاء من هذه الجامعات. ولولاها ما كان الإنتاج ولا الاقتصاد، لا في السلم ولا في الحرب. اليوم تحاول الصين أن تأخذ من أميركا ما سبق أن أخذته الأخيرة من ألمانيا من خلال برنامج «الألف موهبة»، والذي يمثل نموذجاً لسعي الصين الحثيث للحلول محل الولايات المتحدة في مجال البحث العلمي، فهي تدرك ان هذا هو الذي قاد أميركا إلى صدارة العالم. كل هذا يجري في العالم ونحن مشغولون بتبرير أفعال الإرهابيين.
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw