جعلوني مجرماً
يفرض القانون على لجنة المناقصات اعتماد تعاقد الدولة على شراء أية مادة أو خدمة أو برنامج على قاعدة «أرخص الأسعار»!
في الصحة والتعليم والتدريب والتكنولوجيا المتقدمة لا يمكن الإصرار على تطبيق هذه القاعدة وتوقع نتائج جيدة. فلو كانت وزارة الصحة ملزمة بشراء الأمصال المضادة للكورونا على قاعدة «أرخص»، لكنا جميعا الآن محصّنون «نظرياً» ضد الكورونا بأمصال صينية ومصرية وإيرانية وكوبية وروسية!
ما ينطبق على الصحة ينطبق بشكل أقوى على التعليم، فشعب جاهل لا يستطيع حتى اختيار الأرخص، فما بالك بالأفضل.
***
على الرغم مما حققته الدولة من نجاح في مجالات كثيرة، خاصة قبل تحالفها القاتل مع القوى القبلية والدينية والطائفية، فإنها لم تول التعليم، بعد مرحلة عبدالعزيز حسين، ما يكفي من اهتمام. فقد فشلنا طوال مئة عام في توفير ولو %50 من حاجتنا من المدرسين في مختلف التخصصات، ولا أتكلم هنا عن الكفاءة، أو الكيف، بل فقط الكم!
كما فشلنا طوال 75 عاماً في توفير ما يكفي من العمالة الوطنية المدربة والمطلوبة للتنقيب عن النفط وتكريره وشحنه وصيانة منشآته، بل استعضنا عن ذلك بملء مكاتب الشركات بموظفي الياقات البيضاء، بسبب التعليم المتخلّف الذي كرّهنا بالعمل اليدوي!
كما فشلنا على مدى مئة عام في توفير ما يكفي من أطباء، أو حتى %1 من الممرضين والممرضات، على الرغم من أننا تعرفنا على أول ممرضة عام 1912، هذا غير وجود معهد تطبيقي وتدريب، حتى للممرضات، منذ أكثر من نصف قرن.
***
نعود إلى موضوع قانون المناقصات، ونتمنى على الحكومة، وعلى ما تبقى من نواب عقلاء، النظر في تغييره وتطويره، والأخذ من تجارب الدول المتقدمة في هذا المجال، فما أكثرها. ومن أهم التعديلات المطلوبة إلغاء الالتزام الحرفي بقاعدة «أرخص الأسعار»، وضرورة مساواة المورد بالحكومة في غرامات المناقصات.
فمن غير المعقول تغريم المورد أو المقاول %10 من قيمة عقده مع الدولة في حال تقاعسه عن الالتزام بتوريد المواد أو إنهاء الأعمال، ولا يفرض ما يماثل ذلك على الحكومة إن هي تقاعست أو «تعسّفت» وتأخرت في سداد دفعات الموردين، من دون سبب وجيه، وهي تدرك التبعات الخطيرة والقاسية عليه، وعلى سلسلة من المعتمدين عليه إن لم تدفع مستحقاته في وقتها. هذا بخلاف ما يتسبب به تأخير الدفعات من انتشار الرشوة، لتعجيل دفعات مرصودة مسبقاً وموجودة في حساب الوزارة في البنك المركزي، ولا تحتاج إلى أن تُقر من جديد.
***
لقد تعبنا وتعب جميع المتعاملين مع الحكومة من موضوع الرشوة التي أصبحت منتشرة.
فهي مطلوبة في المستشفيات للبحث عن ملف مفقود لمريض، أو إيجاد غرفة، أو سرير.
ونجدها في أروقة المحاكم، لمن ينهي معاملتك في لحظات، ونجدها في الإدارات المالية في مختلف الوزارات، كما نجدها في البلدية والأوقاف والتربية، وفي إدارة التصديقات في الخارجية، والإدارات المالية في التربية والأشغال والصحة و«همجة» أخرى من الهيئات والمراكز والمصالح الحكومية.
الواقع يتطلب منا عدم الحلم بالقضاء على سرطان الرشوة، بعد أن تغلغل تقريباً في كل غار وباب فار، ولكننا نحلم بأن تُقلل من خلال تطوير الأنظمة الإدارية، وتعجيل سداد مستحقات الأفراد والمؤسسات لدى الدولة، ومعاقبة المرتشين، وتطبيق القانون على الجميع.
سكوت الحكومة عن إصلاح الوضع الحالي يدفع كل مواطن، صاحب حاجة، لأن يصبح مجرماً، فلا تجعلينا يا حكومة من المجرمين.
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw