الرميحي والاستثمار في الخوف

في أغلب الديموقراطيات يتصارع حزبان أو أكثر قليلاً للفوز بالحكم، وقلة يزيد فيها عدد الأحزاب عن أربعة مثلاً، أما إسرائيل ففيها أكثر من 30 حزباً، وهم في اتحاد وانقسام مستمرين، ويصعب على أي منها تشكيل الحكومة بغير الائتلاف مع غيرها، بالرغم من كل ما بينها من اختلافات وتناقضات.
يقول الزميل والأكاديمي محمد الرميحي، في مقال مميز له في الشرق الأوسط (19ـــ‏6ـــ‏2021) إن هذا الخليط السياسي المبعثر يعبّر بوضوح عن الطبيعة الحقيقية للمجتمع الإسرائيلي المكون من أقليات عرقية وإثنية وثقافية مختلفة، ينظر بعضها للآخر بدونية! ويتساءل بمنطقية: ما السر في وجود دولة بمثل هذه القوة العلمية والعسكرية التي تبدو متماسكة في الخارج، وهي بكل هذا التشتت من الداخل؟

ويجيب بأن الأمر يكمن في عاملين، الأول يعتمد على ايديولوجيا «الاستثمار في الخوف» من جهة، والآخر وجود مؤسسات دولة حقيقية تفرض احترام القانون على الجميع، وهذان العاملان يوازنان التشرذم المجتمعي.
***
هذا صحيح إلى حد ما، فبالرغم من حقيقة أن الخوف من محيطهم العدائي، والخوف من العودة لمآسي الشتات يجمعهم، إلا أن هناك عاملاً ثالثاً لا يقل أهمية ويكمن في العمق والإدراك الحقيقي لهذين العاملين، وهذا لم يكن ليتحقق لو لم يكن المجتمع الإسرائيلي متعلماً تعليماً مميزاً، ولولا ذلك لكانت العقود السبعة الماضية كافية «لتدجينهم» ودفعهم للتأقلم، ونسيان ما تعرض له أجدادهم من اضطهاد، فهذه طبيعة البشر.

ولو طبقنا عامل الخوف على الكويت، الأكثر تأهيلاً لأن تخاف من محيطها ومن مستقبلها، ومن احتمالية العودة لشظف العيش والفقر المدقع، لوجدنا أن هذا العامل «المزدوج» لم يلق يوماً اهتماماً وطنياً بسبب ضآلة ثقافة وتدني تعليم المجتمع الكويتي مقارنة بالإسرائيلي. والاستثناء الوحيد نجده ربما بين الأقليات القبلية والطائفية، حيث يدفعها الخوف غالباً لاختيار النائب الأكثر تطرفاً حيال قضاياها.

ويعود السيد الرميحي ليذكر بأنه في المقابل نجد أنه بالرغم من تماثل المجتمع الفلسطيني في أشياء كثيرة، مقارنة بالمجتمع الإسرائيلي، فإنه فشل في بناء مؤسسات جامعة منيعة، ولم يعلِ سلطة القانون، فتشرذم الموحد في مقابل توحد المشرذم الإسرائيلي!
***
جاورنا اليهود في كل دولنا تقريباً، ولآلاف السنين. ولو ركزنا على مجاورة الفلسطينيين لهم، وبالذات في السنوات المئة الأخيرة، لوجدنا أن الفلسطينيين، ولسنا أفضل منهم، لم يتعلموا الكثير من تلك الجيرة، ولم يشكل وجودهم، أو تقدمهم العلمي الطاغي خوفاً لديهم، أو يكون دافعاً للاقتداء بهم.

فقد كان اليهود في «فلسطين» أقلية حتى أربعينيات القرن الماضي، ومع هذا كانت لهم سلطة موحدة، وأصبح لديهم، بعد التأسيس، أقوى جيش في المنطقة وأفضل الجامعات والمراكز العلمية والبحثية العالمية وأعلى مستوى تعليمي وأعلى متوسط دخل للفرد في المنطقة، ووصل تعدادهم لـ9 ملايين ونصف المليون، منهم 7.5 ملايين يهودي!

ومنذ تاريخ نشأتها وهي تضرب المثال تلو الآخر في التقدم والتوسع والتعلم وإصلاح الصحارى، وإقامة أعقد الصناعات والتسلح نووياً، واستقطاب الملايين لها، ونحن ننظر لها فاغري الأفواه عاجزين عن فعل شيء وكأننا ممسوسون!
***
تشكلت وزارة إسرائيلية جديدة قبل أيام، وبدعم حزبي عربي منتمٍ للإخوان المسلمين. تضمنت الوزارة 9 سيدات، في ظاهرة غير مسبوقة في دولنا «الذكورية» في غالبيتها! وشكل تعيين السيدات الوزيرات التسع صفعة لشيء من عاداتنا وتقاليدنا، خاصة بعد قراءة سيرتهن، وكيف أن أصول خمسة منهن من بلدين عربيين، المغرب والعراق، وبينهن من تحمل رتبة لواء في الجيش، وهي وزيرة الاقتصاد، ولا يهم هنا اسمها!

أما الثانية فتحمل شهادة ماجستير من «جامعة حيفا» في إدارة الأعمال، ومجندة سابقة في الجيش، وتلقت دورات لكبار المسؤولين العسكريين.

أما وزيرة الداخلية في الحكومة الجديدة، والمولودة قبل 45 سنة في تل أبيب، فوالدها محاسب عراقي هاجر في الخمسينيات من العراق (تصوروا في الخمسينيات، وتتولى ابنته وزارة الداخلية)!

ولن أوجع قلبكم في سرد سيرة بقية الوزيرات، فبينهن مقعدة ومصابة بمرض خطير، وغير ذلك من أمور يصعب علينا استيعاب أهميتها. فمجتمعهم، الذي «نكرهه»، ولا أطالب بأن نقع في حبه، يستحق بالفعل أن نتعلم منه شيئاً من العقل، وشيئاً من التسامح، على الأقل بين بعضنا البعض، وشيئاً من حب العلم، وشيئاً من النظام، وشيئاً من العدالة، وشيئاً من احترام القانون، وشيئاً من المساواة بين الرجل والمرأة، وشيئاً وشيئاً وشيئاً!
***
مواطنون إسرائيليون من صلب الجيل الأول، المهاجر لإسرائيل، يتقلدون أرفع مناصب الدولة السياسية والعسكرية، وأكثرها خطورة على أمن الدولة، من دون أن يسألهم أحد عن الولاء، لأنه أمر مفروغ منه في دولة تؤمن بالمساوة والعدالة، التي لا نمتلك الكثير منها.

ثم نأتي لدولنا ونذرف الدموع على أوضاعنا، فلا يزال أبناء الجيل الرابع ممن قدموا للكويت قبل مئات السنين، غير أهل للثقة، ممنوعون من العمل في جهات حكومية محددة، بسبب أمور عفا عليها الزمن، لكن آثارها باقية في النفوس.

فالدولة تطلب من هؤلاء أن يثبتوا أنهم أهل للثقة قبل أن تسمح لهم بالعمل في كل مرافق الدولة، أسوة بغيرهم. وهؤلاء يطلبون منها منحهم الثقة، وسيثبتون بعدها أنهم أهل لها!

وإلى حين اتفاق الطرفين، سنبقى كما نحن.

أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top