الرفقة التي دامت سبعين عاماً.. ولا تزال
الموسيقى هي فن ترتيب الأصوات في الوقت المناسب، وهي باختصار ما يطرب السمع ويسعد الروح، ويحرك الحواس والجسد، وليس أصدق من ذلك رؤية طفل في المهد وهو يحرك رأسه وأطرافه منتشياً لسماعها!
***
قد يكون مصدر الموسيقى آلة أو شفتين وحجرة، أو يداً تصفق، أو أقداماً تضرب الأرض برتم، أو إيقاعاً جميلاً، كما تفعل فرقة river dance الأيرلندية الشهيرة. أو قد يكون مصدر اللحن أو النغم منقاراً أو حنجرة طائر صغير.
يقاس تقدم الشعوب أحياناً بتنوع الآلات التي تستخدمها في موسيقاها وفنونها. فهناك آلات عزف وترية كالعود والكمان، والربابة طبعاً. وآلات نفخ كالناي والبوق والسكسافون والهامونيكا. وهناك آلات القرع كالطبول والصاجات، وآلات أكثر تعقيداً كالأورغ والبيانو، إلى غير ذلك من آلات!
***
أحببت الموسيقى منذ صغري، فقد نشأت في بيت يغرم صاحبه، والدي، بالاستماع لأغاني عبدالوهاب وفيروز، وتأثرت به كثيراً.
يقول عبدالوهاب في أغنيته الشهيرة «سهرت منه الليالي»، التي صاغها حسين ابن الشاعر أحمد شوقي:
سهرت منه الليالي مال الغرام ومالي
إن صد عني حبيبي فلست عنه بسالي
يطوف بالحب قلبي فراشة لا تبالي
آه الحب.. الحب فيه بقائي
آه الحب.. الحب فيه زوالي
قلب بغير غرام جسم من الروح خالي
أما رأيت حبيبي في حسنه كالغزالِ
ربي كساه جمالاً ما بعده من جمال
انظر كيف تهادى من رقة ودلال
قل للأحبة رفقاً بحالهم وبحالي
يبدون صداً ولكن هم يضمرون وصالي
ما أقصر العمر حتى نضيعه في النضال
آه الحب.. الحب فيه بقائي
آه الحب.. الحب فيه زوالي
***
تعتبر أغنية «سهرت منه»، التي استمع لها منذ أكثر من 60 عاماً من دون ملل، والتي غناها عبدالوهاب في بداية ثلاثينيات القرن الماضي، أول أغنية في تاريخ الموسيقى العربية بلحن التانجو، نجح عبدالوهاب فيها، كما أخبرني من يعرف في الموسيقى، في دمج عدة مقامات مع إيقاع التانجو من خلال استخدام مجموعة آلات حديثة، متنقلاً من مقام لآخر. ويقال إن هذه الأغنية صنفت من قبل جهات فنية معروفة كأفضل أغنية تانجو عربية، وهذا دفع عدداً من مشاهير المطربين لأدائها.
وبالرغم من أن البعض يتهم عبدالوهاب بسرقة إنتاج غيره فإن ما اقتبسه من ألحان، وهذا شائع حتى بين أعظم موسيقيي العالم، لا يشكل إلا جزءاً يسيراً من بحر إبداعاته الأخرى، التي ستبقى في الذاكرة ما حيينا. فالاقتباس بين المبدعين أمر شائع، ولا يحط من قدر أي منهم، ولو كان النقل بتلك السهولة فلمَ لم تستطع إلا القلة القيام به؟
وأخيراً، ما هي القصيدة الشعرية، فن العرب الأزلي، أليست هي أيضاً لحناً مصاغاً ببراعة ولها جرس رائع يسر سامعيها؟
يقول المتنبي في قصيدته «بم التعلل»:
بِمَ التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ :: وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني :: ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ :: ما دامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
فَما يَدومُ سُرورُ ما سُرِرتَ بِهِ :: وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ
مِمّا أَضَرَّ بِأَهلِ العِشقِ أَنَّهُمُ :: هَوُوا وَما عَرَفوا الدُنيا وَما فَطِنوا
تَفنى عُيونُهُمُ دَمعاً وَأَنفُسُهُم :: في إِثرِ كُلِّ قَبيحٍ وَجهُهُ حَسَنُ
تَحَمَّلوا حَمَلَتكُم كُلُّ ناجِيَةٍ :: فَكُلُّ بَينٍ عَلَيَّ اليَومَ مُؤتَمَنُ
ما في هَوادِجِكُم مِن مُهجَتي عِوَضٌ :: إِن مُتُّ شَوقاً وَلا فيها لَها ثَمَنُ
يا مَن نُعيتُ عَلى بُعدٍ بِمَجلِسِهِ :: كُلٌّ بِما زَعَمَ الناعونَ مُرتَهَنُ
كَم قَد قُتِلتُ وَكَم قَد مُتُّ عِندَكُمُ :: ثُمَّ اِنتَفَضتُ فَزالَ القَبرُ وَالكَفَنُ
قَد كانَ شاهَدَ دَفني قَبلَ قَولِهِمِ :: جَماعَةٌ ثُمَّ ماتوا قَبلَ مَن دَفَنوا
ما كُلُّ ما يَتَمَنّى المَرءُ يُدرِكُهُ :: تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُفُنُ
رَأَيتُكُم لا يَصونُ العِرضَ جارُكُمُ :: وَلا يَدِرُّ عَلى مَرعاكُمُ اللَبَنُ
جَزاءُ كُلِّ قَريبٍ مِنكُمُ مَلَلٌ :: وَحَظُّ كُلِّ مُحِبٍّ مِنكُمُ ضَغَنُ
وَتَغضَبونَ عَلى مَن نالَ رِفدَكُمُ :: حَتّى يُعاقِبَهُ التَنغيصُ وَالمِنَنُ
فَغادَرَ الهَجرُ ما بَيني وَبَينَكُمُ :: يَهماءَ تَكذِبُ فيها العَينُ وَالأُذُنُ
تَحبو الرَواسِمُ مِن بَعدِ الرَسيمِ بِها :: وَتَسأَلُ الأَرضَ عَن أَخفافِها الثَفِنُ
إِنّي أُصاحِبُ حِلمي وَهوَ بي كَرَمٌ :: وَلا أُصاحِبُ حِلمي وَهوَ بي جُبُنُ
وَلا أُقيمُ عَلى مالٍ أَذِلُّ بِهِ :: وَلا أَلَذُّ بِما عِرضي بِهِ دَرِنُ
سَهِرتُ بَعدَ رَحيلي وَحشَةً لَكُمُ :: ثُمَّ اِستَمَرَّ مَريري وَاِرعَوى الوَسَنُ
وَإِن بُليتُ بِوُدٍّ مِثلِ وُدِّكُمُ :: فَإِنَّني بِفِراقٍ مِثلِهِ قَمِنُ
أَبلى الأَجِلَّةَ مُهري عِندَ غَيرِكُمُ :: وَبُدِّلَ العُذرُ بِالفُسطاطِ وَالرَسَنُ
عِندَ الهُمامِ أَبي المِسكِ الَّذي غَرِقَت :: في جودِهِ مُضَرُ الحَمراءِ وَاليَمَنُ
وَإِن تَأَخَّرَ عَنّي بَعضُ مَوعِدِهِ :: فَما تَأَخَّرُ آمالي وَلا تَهِنُ
هُوَ الوَفِيُّ وَلَكِنّي ذَكَرتُ لَهُ :: مَوَدَّةً فَهوَ يَبلوها وَيَمتَحِنُ
فكيف يحرم البعض علينا ما أعطته الطبيعة لنا؟
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw