مأساة التدوين في تاريخنا

اعتادت مجتمعاتنا، منذ بداية العصر الإسلامي، وحتى سنوات قليلة ماضية، على عدم التدوين والاعتماد غالباً على الذاكرة، إلا فيما ندر من الحالات، لذا أصبح هناك ميل لدى البعض للشك في غالبية النصوص القديمة.
يتطلب تدوين الأقوال والأحداث توافر أمور محددة، كالأحبار والأوراق والمدونين، أو مؤرخين محايدين، قدر الإمكان، وإيمان المجتمع بفكرة التدوين وبصحة ما تم تدوينه، كيلا تأتي فئة وتحرق ما دوّنه من سبقها. مع ضرورة توافر مبنى أو مكان آمن يمكن فيه حفظ ما تم تدوينه، وكلها أمور لا يمكن تصور توافرها في بيئة صحراوية غير مستقرة، وفقيرة جداً بمواد الكتابة والمتعلمين، دَع عنك المؤرخين والمدونين، وخاضعة ومتأثرة بالحروب والقلاقل والغزوات، وتقلب أحوال القبائل والممالك فيها. وبالتالي لم يكن غريباً فقدان أصول غالبية مخطوطات ذلك الزمان، ولم يصلنا إلا القليل مما تم تدوينه على مدى 14 قرناً الماضية، ولذا اعتمد العرب في غالبية تاريخهم على الشعر، الذي أصبح «ديوان العرب»، لأن كثيراً من الأحداث حُفظت وبقيت في الذاكرة، ولكنه شعر يروي وجهة نظر المنتصر أو المستفيد، ويفتقد للحياد غالباً.
***
هناك، كما يرى المؤرخون، ما يقارب من مئتي سنة مفقودة من التاريخ الإسلامي، لا يعرف عنها الشيء الكثير. وفي مقال للأستاذ نزار الحيدري (2ــــ7ـــــ2020) ذكر أن السواد الأعظم من المسلمين يستندون على صحة الأحاديث إلى مراجع كالبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم. وبخلاف ما بين هؤلاء من اختلافات، فإننا نجد أيضاً أن البخاري ولد سنة 194 هجرية، أي بعد وفاة النبي بـ183 عاماً. وولد مُسلم سنة 206 هجرية، أي بعد وفاة النبي بـ195 سنة، وهكذا مع بقية المدونين والمؤرخين، كالنسائي وابن ماجه والترمذي. كما كانوا جميعاً من غير العرب، ولم يولدوا في الجزيرة.

وحيث إن طول الجيل في منطقتنا يبلغ 33 سنة، فهذا يعني أن الفاصل بين وفاة النبي العربي وظهور واضعي الأحاديث، يبلغ ستة أجيال.

وبما أن الزمن يتطور والبشر يتغيرون، والنفوس تنقلب، والعقول تتحول، والبشر أصلاً مذنبون يصيبون ويخطئون، ويجمعون بداخلهم بين الخير والشر، والصواب والخطأ والحسنات والسيئات وليسوا ملائكة معصومين منزهين، فمن حقنا بالتالي التساؤل عما دون خلال هذه الحقبة الزمنية التي تزيد على ستة أجيال، والتي لا يبدو أن أحداً يعلم عنها شيئاً مؤكداً أو يجزم بأحداثها بالأدلة والبراهين التي لا تقبل الشك أو اللبس، فهل يعقل هذا؟

ويزداد الموضوع غموضاً عندما نعلم أن جميع ما خطه «مؤرخو الأمة» بأيديهم قد فقد، فمن يستطيع الجزم بصحة ما بين أيدينا؟ كما لا يعرف شيئاً عن خطب النبي التي ألقيت أيام صلاة الجمعة، على مدى 23 عاماً! فكيف تأتي هذه الكتب بعشرات آلاف الأحاديث ولا تتضمن خطب المصدر الأهم والأكثر قدسية؟
***
هل يعقل أن المسلمين، وبعد وفاة النبي بستة أجيال، وحكم أكثر من 24 خليفة، لم يقوموا بتدوين الأقوال والأحاديث، ليأتي من هم خارج ثقافتهم وبيئتهم ويدوِّن تاريخ الإسلام المبكر نيابة عنهم؟ كيف حدث ذلك ومخطوطات وآثار الكثير من الحضارات الأكثر قدماً بكثير بقيت حتى اليوم؟

وبالتالي لا يجوز السكوت عن هذا الموضوع، ومن الضروري الوقف عن تكفير الناس وإخراجهم من الملة متى ما طرحوا مثل هذه الأسئلة المستحقة والمنطقية، بحثاً عن إجابات شافية ومقنعة.

أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw

الارشيف

Back to Top