نعال المعابد والأخلاق
كتب الزميل فاروق البياتي قبل عشر سنوات تقريباً مقالاً نقتبس منه التالي:
في ثمانينيات القرن الماضي حدثني صديق من البصرة، يعمل في شركة بتروكيماويات، أن الشركة أوفدته في دورة تدريب مع زميل آخر إلى اليابان، وأنه وصديقه فضّلا الإقامة عند عائلة يابانية حولت سكنها إلى نزلٍ ومطعمٍ صغيرٍ، بدلاً من الإقامة في فندق 5 نجوم.
بعد انتهاء الدورة طلب صديقه من صاحب البيت فاتورة بسعر فندق الـ5 نجوم نفسه، ليحصل على الفرق من الشركة لنفسه، إلا أن هذا رفض الطلب ووصفه باللاأخلاقي!
المفاجأة كانت في رد فعل الصديق، حيث وصف كلام الياباني بالتالي: «هذا صاير شريف براسنا وبنته تقدم لنا البيرة»!
وهذا بيّن أن معيار الأخلاق لدينا لا يكمن في سرقة الشركة التي نعمل بها، بل في قيام شخص بالطلب من ابنته أن تقدّم الطعام، مع البيرة، لنزلاء الفندق.
ويستطرد الكاتب في سرده عن معيار الأخلاق، بأن أستاذ الفلسفة عبدالرحمن بدوي ذكر في كتابه «الأخلاق النظرية» الفرق بين الأخلاق كثوابت وقيم إنسانية، والأعراف كتقاليد تأخذ شرعيتها من شيوعها، وحتى لا أذهب بالقارئ بعيداً في متاهات فلسفة الأخلاق وفصول كتاب بدوي، أوجز الفكرة بجمل قليلة.
فالأخلاق مجموعة قيم وصفات خيرة لا يستقيم الإنسان والمجتمع من دونها، ومن أهمها على سبيل المثال الصدق والأمانة، ويعدها العالم المتحضّر معياراً لـ«الشرف». ولا يمكن أن تجد مجتمعاً (بخلاف جزء كبير من مجتمعاتنا) يقول خلاف ذلك.
أما الأعراف فهي «عقد» اجتماعي يتضمن عادات وتقاليد يُتفق عليها، ويرسخها المجتمع، وقد تختلف معاييرها من مجتمع إلى آخر، فهناك أعراف حميدة بنظر مجتمع ما قد تجدها سيئة ومنافية لقيم وأعراف مجتمع آخر. وتقع الأعراف خارج المنظومة الأخلاقية، أما قيمتها الاعتبارية فتحددها التقاليد والعادات المتوارثة لذلك المجتمع. ولا يمكن في أي حال أن تكون بديلة أو متقدمة على القواعد الأخلاقية، فالأخلاق أولاً والأعراف تالياً. كما أن الأخلاق ثابتة أما الأعراف فمتحولة. كما أن الأعراف تضعف وتنحسر وتتلاشى أمام القيم الأخلاقية الحقيقية كلما تطوّر المجتمع ونَظّم سلوكه الإنساني. فعندما نغوص في تاريخنا نجد أننا محكومون بأعراف وعادات وتقاليد ترسّخت منذ عشرات السنين، تنحسر وتتلاشى أمامها القيم الأخلاقية، بمعنى أننا مجتمع أعراف وليس مجتمع أخلاق، ونكتشف أيضاً أن التخلّف تربة خصبة تشجع على تقديس الأعراف وتفضيلها على أية قيم أخلاقية. والأخطر من هذا كله أننا نتعامل مع الأعراف على أنها هي الأخلاق، ومنذ أن تفتحت عيوننا على الدنيا ونحن على دين آبائنا، فالمفردة اللغوية «الشرف» مرتبطة ارتباطاً راسخاً بالجنس والأعضاء التناسلية، فعندما ينعت أحدهم آخر بأنه «غير شريف»، يتبادر إلى أذهاننا فوراً أن أعضاءه أو أعضاء أحد أفراد أسرته منتهكة! فبإمكان الفرد العربي أن يكذب ويسرق ويخون الأمانة ويعتدي على الآخرين من دون أن يوصف بعدم الشرف، مقابل امرأة صادقة ونزيهة وأمينة وتتمتع بشعور عال من الإحساس بالمسؤولية الإنسانية، وقد تكون مخترعة أو مكتشفة لمصل أو دواء، ولكن لأنها تعيش مثلاً مع «صديق» فهي بالتالي غير شريفة!
وعندما نريد خطبة فتاة، فالسؤال الأكثر أهمية يتركز على أخلاق البنت وسمعة أمها، أما بقية الأمور كسرقات والدها مثلاً، فلا اعتبار لها.
وينهي الكاتب مقاله بأنه لا يريد لمجتمعاتنا أن تتخلى عن أعرافها، فليقدسها من شاء، بل هو يبحث عن وسيلة لرد الاعتبار للأخلاق والشرف، وأن تكون القدسية أولاً للقيم الأخلاقية المتفق عليها إنسانياً، وألا نقدّس الأعراف عليها، فشيوع الفساد المالي وتعاطي الرشوة في دولنا دليل على عدم تعارضهما مع الأعراف، ولا يلحقان عاراً بمن يقترفهما، بل نحن غالباً ما نحسد السراق في دواخلنا، فنصف تاريخنا يتحدّث عن الغزوات والمفاخرة بالغنائم، فقد اشتهرنا بأننا «نهّابون وهّابون». وعندما نتبادل تحية الوداع مع الغير نقول: «تروح سالم وترجع غانم»! فالغنيمة هي التي تحصل عليها مجاناً، وغالباً بالقوة أو السرقة.
***
يكفي أن معابدنا هي الوحيدة التي تسرق أحذية المصلين من أمامها. أو كما يقول المفكر الإيراني «علي شريعتي»: «أفضّل المشي في الشارع وأنا أُفكّر في اللّه، على الجلوس في المسجد وأنا أفكّر في حذائي»!
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw