الخروج من حالة الترانزيت
تطرقت في مقال نشر قبل 4 أو 5 سنوات إلى موضوع السن، التي يرغب الكثيرون بلوغها والتوقف عندها، أو بالأحرى التي يرغبون بالعودة إليها، إن أتيح لهم ذلك! وكنت وصديقاً آخر، في ذلك اللقاء الجميل، الوحيدين اللذين تمنينا البقاء في سننا المتقدمة، شريطة الثبات عليها. فحجم ما تجمّع أو تراكم لدينا من معرفة وخبرات لا يمكن التفريط به، وهي أثمن من أن نضيّعها بتمني العودة إلى عمر أقل، وخبرة وفهم أقل بالحياة!
***
الجمع نفسه تقريباً التأم أخيراً، وكان النقاش حول سبب تخلّف أمّتنا، من دون تحديد اسم هذه الأمّة، بعد أن أصبحت مثالاً للتردي والعجز والهوان!
كالعادة، تعددت الآراء وتباينت بين قائل بأن المشكلة تكمن في الجهل، وأرجعها آخر إلى سني الاستعمار الطويلة، وثالث إلى ظروف التاريخ، ورابع وضع المسؤولية على عاتق القيادات، إلى غير ذلك من آراء لم يتفق الجميع على رجحان أي منها، وفي النهاية أدلى «الصامت الأكبر» برأيه قائلاً: إن السبب في هوان الأمّة يعود إلى حالة «الترانزيت» التي اختارت أن تعيشها!
صمْتُ البقية، وخاصة لسماع كلمة ترانزيت، التي لا مرادف لها في العربية، دفع الصامت الأكبر إلى الاستطراد قائلاً إننا جميعاً ربما مررنا بتجربة «الترانزيت»، عندما نجد أنفسنا، لسبب أو لآخر، مجبرين أو باختيارنا، عالقين في أحد الموانئ، بانتظار باخرة أو مركبة أو طائرة تنقلنا لوجهتنا التالية. قد تطول فترة الترانزيت من ساعة إلى أكثر بكثير، وتصبح المشكلة لدى غالبية أفراد الأمة في كيفية قضاء وقت الترانزيت، خاصة أن ليس من «عادات وتقاليد» هذه الأمّة القراءة!
تصبح المسألة أكثر تعقيداً عندما نعلم بأن غالبية أفراد هذه الأمة، وأية أمة، هم من غير ركاب الدرجات المميزة، وهذا يعني عدم توافر بوفيه يمكنهم تمضية الوقت فيه بتناول ما لذ وطاب من أطعمته ومشاربه، كما يصبح الوقت ثقيلاً بغير خدمة إنترنت، ولا أرائك مريحة يمكن النوم عليها، ولا حمامات نظيفة، ولا شاشات أو قنوات تلفزيون مسلية تمكن متابعتها، وبالتالي تراهم يقضون الساعات في التفرس في وجوه من يمرون أمامهم، أو محاولة النوم غير المريح على كراس صممت خصيصاً لتكون غير مريحة! وتصبح المعاناة أكبر عندما نعلم أن الجميع تقريباً لا يحمل، ولم يحمل يوماً كتاباً ولا حتى نسخة من مجلة «لولو والكلب البنفسجي»! وبالتالي ليس أمام ركاب الترانزيت غير الانتظار، فلا خطط يمكن العمل عليها، ولا مشاريع يمكن تنفيذها، ولا لقاءات مثمرة، ولا فرصة لإجراء دراسات أو القيام بالزراعة، فكل شيء مقطوع وغير ممكن القيام به، وهذه حال أمتنا التي تولد وتكبر وفي مرحلة تالية تدخل الترانزيت، وتقبل البقاء هناك، رافضة الخروج، فالغالبية الكاسحة تعتقد أن وجودها في الحياة «ترانزيت»، وبالتالي تنعدم لديها، بتلقائية غريبة، الرغبة في التخطيط للمستقبل، أو الاهتمام بالتعمير أو بالاكتشافات، ولا حتى بتطوير النفس أو تشجير الأرض، فالغالبية اختارت أن تؤدي ما عليها من فرائض، وتعتقد بعدها أن مهمتها في الحياة قد انتهت، فتستسلم لحالة «الترانزيت»، وانتظار الآخرة، فهي خير وأبقى، ولكن ماذا عن الدنيا؟!
وإلى مقال الغد..