المال.. المال.. والرفقة الطيبة!
لقد وصلت إلى السن التي غالبًا ما يغادر فيها قطار أفكاري المحطة بدوني.
***
لا يعلم الغالبية، خاصة في أوطاننا، أن أثمن شيء في الحياة هو الوقت، الذي يصبح ملكنا عندما نأتي لهذه الحياة، ويبدأ بالتناقص وينتهي مع آخر نفس في جسدنا، ومع هذا لا يمتلك الغالبية الفهم لاعطائه ما يستحق من أهمية وقيمة، ونستعجل مروره ليأتي آخر الشهر سريعا لنقبض الراتب، أو ليحل أجل الوديعة أو ليستحق إيجار العمارة، أو لنلتقي بمن نحب أو لنستعجل الانتهاء من الدراسة، غير مدركين، في خضم انشغالنا بأمور الحياة، أن هذا الوقت الذي نستعجل مروره، يذهب من حياتنا ولن يعود، وأنه من المنطقي ألا نستعجله، ولكن لا أحد يفكر بهذه الطريقة، فالعادة تتغلب دائما!
عندما أجلس مع نفسي، وغالبا ما أصبحت أفعل ذلك، بعد أن أغلق جهاز الكمبيوتر، وأبعد الهاتف النقال عني، أتساءل في الكيفية التي مر بها قطار العمر، وكيف حدث كل شيء بوعي أحيانا أو بنصفه، وغالبا بغيره، وكيف مرت العشرون أو الثلاثون ألف يوم منذ أن أطلقت أولى صرخاتي كجنين؟ ماذا فعلت بكل هذا العدد الكبير من الأيام، والتي غالبا ما استعجلت قدومها، بغباء، إما انتظارا لراتب أو لترقية أو لإنجاز صفقة أو للقاء من أحب أو لولادة طفل، أو حلول موعد سفر، أو زواج، أو انتهاء معاناة أو كارثة، وغير ذلك الكثير من المثير وشبه المثير والممل، ويبدو أن للوقت طريقة سريعة في التحرك، لعلمه بأن أحداث الحياة كفيلة بإشغالنا عن تحركه، أو إحساسنا بمروره، إلا إذا كنا بانتظار أمر خطير، حينها نشعر بأن الثانية أصبحت بطول ساعة.
كنت بالأمس فقط موظفا في البنك أنتظر الترقية، وأنظر لزميلتي في العمل متمنياً القرب منها، وإلى المدير واعداً حالي بمنصبه، ولتلك السيارة ممنياً النفس باقتنائها..! ويمر الوقت ويتحقق بعض أو كل تلك الأمور، ولكن لا شيء يحركنا ويدفعنا للاهتمام بمرور الوقت، فالكل يستعجله، والكل يخسره، ولا أحد يود تباطؤه!
لقد بلغنا أخيراً الـ%10 الأخيرة من العمر، ولكن ما تراكم لدي من خبرة خلال الـ%90 في المئة التي مضت جعلتني شبه بارع في عملية «مط» ما تبقى من وقت وجعله %20 أو حتى %30 من خلال مضاعفة استمتاعي بالوقت!
قد يبدو ذلك للبعض صعباً أو مستحيلاً، بعد أن وهن الجسد، وتعبت المعدة، وزالت الرغبات، ورحل عنا من كنا نسعد بوجودهم، ولكن لا حدود أمام العقل إن قرر أن يجعل اليوم أكثر ثراءً في كل شيء، فتراكم الخبرات يساعدنا في الاستفادة من ساعات اليوم بطريقة أفضل بكثير عما كنا نقوم به ونحن في مقتبل العمر، فما تبقى في الكيس من كرز يستحق التلذذ بحباته بطريقة أفضل مما سبقها من حبات. وعلينا الانتباه إلى حقيقة أن الوقت أصبح يمضي بسرعة أكبر وأنه لا مجال للتأجيل، وأن نتذكر بأننا، بخلاف الكثير الذين رحلوا، لا نزال على قيد الحياة. وأنه علينا أن نكون سعداء بهذا الاكتشاف وأن يكون دافعاً لأن نستمتع بوقتنا دون الإضرار بصحتنا وبما تبقى من وقت لدينا.
قد لا نتمكن من إضافة أيام أو سنوات لحياتنا، ولكن بإمكاننا أن نجعلها أجمل وأفضل بالتمتع وبالذات من خلال الحرص على الاحتفاظ بصداقة من هم حولنا، وأن نعطي الآخرين تقديراً واحتراماً أكثر.
قد يكون لدى البعض مال، وأكثر مما يمتلكه غيرهم، ولكن هذا المال لا يعني شيئاً بغير محبة واحترام الآخرين «الصادقة» لهم. فالمال يشتري كل شيء إلا المحبة والاحترام. وكلما تقدمنا في العمر قلت حاجتنا للمال، وزادت حاجتنا للأحبة الصادقين الأوفياء من حولنا، فربطات المال الضخمة لا تأتي بالسعادة ولا تجذب الأحبة!
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw