الشعر ديوان العرب

تعتبر الجزيرة العربية، في غالبيتها، منطقة صحراوية، عدا بضع مدن وواحات متناثرة هنا وهناك، والتي تأسست غالبا حول الآبار وأماكن تجمع المياه. هذا الشح أو الجفاف انعكس على طبيعة سكان المنطقة، وعلى طريقة حياتهم، فمالوا أكثر للخشونة، وأصبح كسب العيش غالبا لا يتم بالصناعة أو الزراعة أو أية أعمال يدوية أخرى، بل بالغزو، ولهذا أصبح للانتماء القبلي دور محوري في حياة سكان المنطقة.
كما كان لطبيعة المنطقة الجافة والفقيرة بالموارد أثر على فنونها بحيث أصبح الشعر هو الفن الوحيد المتداول بين سكان المنطقة، فقرضه لم يكن يتطلب ريشا وأقلاما وألوانا ولوحات وأحجارا وأدوات نحت وعزف وكتابة، بل فقط موهبة شعرية، وقدرة ما على حفظ الشعر، وإلقائه. وبالتالي كان لشعراء كل قبيلة ومنطقة دورهم في تدوين وحفظ تاريخ قبيلتهم، والفخر بانتصاراتها، وتدوين معاركها وحلها وترحالها من خلال ما كانوا يقومون بصياغته وتذكره من قصائد. وفي ظل غياب مكتبة أو مركز يمكن فيه حفظ هذه القصائد، بسبب طبيعة حياة العرب في الجزيرة ودوام تنقلهم من مكان لآخر، فقد أصبح الشعر ديوانهم، والحارس الأمين على تراثهم وتاريخهم، منذ ما قبل الإسلام، وحتى عقود قليلة مضت. ولولا قصائد الشعراء لما عرفنا شيئا عن فترة ما قبل الإسلام، وخير مثال على ما كان للشعر من أهمية كتاب "في الشعر الجاهلي" للأديب والمفكر "طه حسين".
ولكن دور الشعر في أن يكون ديوان للعرب والمصدر التاريخي لحياتهم توقف مع نشوء الدولة الحديثة، في بدايات القرن العشرين، وظهور فنون ووسائل تدوين وحفظ أكثر تطورا وديمومة، وبدأ تفكك القبائل مع تمدنها، أثر السكن في المدن الحضرية.
ولو نظرنا إلى الزواج مثلا، وهو أهم حدث يمر بحياة الغالبية العظمى من البشر، لوجدنا أنه كان، ولآلاف السنين، وحتى إلى ما قبل سنوات قليلة، يتم شفاهة. وربما كان المسيحيون من القلة التي كانت ولا تزال تدون عقود الزواج والطلاق والوفيات، وتحتفظ بها في أقبية الكنائس، أما البقية، وعرب الجزيرة بالذات، فلم يكن لهم في تدوين هذا الحدث الهام نصيب، لأسباب تتعلق بطبيعة البيئة، وشح مواردها، وميلهم للترحال، وصعوبة الاحتفاظ بأية أوراق أو مستندات.
على ضوء كل هذه الحقائق، فإن أي كلام يتعلق بتاريخ شخص أو منطقة أو أصول أسر أو جماعات ولا يستند لمصادر تاريخية موثوقة لا يمكن التعويل عليه، وهذه المصادر قد تكون قصائد شعرية قديمة، أو نصوص نثرية أو وثائق معتمدة لمؤرخين أو رحالة ثقات، عرب أو أجانب، أو صكوك ملكيات عقارية مثبتة ومعروفة، فبغيابها لا يمكن الوثوق بأي تسلسل أسري أو قبلي أو حادث سياسي أو حتى حدث روائي!
كما لا يمكن الركون، بدرجة عالية غالبا، بما يدعيه البعض من أن عائلة ما جاءت للكويت، مثلا، من هذه المنطقة أو تلك، بناء على ما سبق أن رواه "شفاهة" أحد جدودهم في يوم ما.
كما أن ما يعتقد بوجوده من أعراق أصيلة وأخرى أقل من ذلك شئنا أمرا لا معنى له في عالم اليوم. فالقبائل، في كل صحاري العالم، لم تكن تمنع أبناء القبائل المنافسة لها، حتى لو كانت أقل منها أصالة ومكانة، من اللجوء لها وطلب الحماية منها، بل كانت ترحب بهم، خاصة إن كانوا أصحاب حضوه أو ثروة أو موهبة وقوة، وكانت تقبل مصاهرتهم وتسمح لهم بحمل اسم القبيلة، وهذا كان له دور وأثر كبير، مع مرور القرون، في تغيير الأنساب والأصول واختلاطها، وأصبح من الاستحالة الادعاء بصفاء ونقاء أصل ما مقارنة بغيره، ولو بطريقة قريبة من الدقة، لغياب المصادر الموثوقة، وانعدام أدوات القياس المعروفة، والجهل التام بمن كان الجد أو الأب الأول لهذه الجماعة أو الأسرة.
أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top