ماكينة الثلج والـ«دي دي تي»
كانت الحياة في الكويت، في بداية الخمسينيات، بسيطة، مع ميل لخشونة عيش واضحة، حتى عند الميسورين، فلا مياه باردة، ولا مكيفات، ولا ثلاجات، وقلة كانت تمتلك مراوح السقف، وكان هناك مصنع لقوالب الثلج «مصدر التبريد الوحيد»، كما كانت مياه الشرب تأتينا من شط العرب في قوارب خشبية، ونحصل على بعضها الآخر من القلبان، أو الآبار، فآثار ونعم عائدات النفط لم تكن قد ظهرت بعد، وبشائرها هلت مع بدء الحكومة بشراء بيوت وأملاك المواطنين ضمن حدود العاصمة، وتالياً في القرى والضواحي الأخرى، كالجهراء والفحيحيل وغيرهما.
كان اهتمام الحكومة بالتعليم وأمور كثيرة أخرى، قبل سبعين أو ثمانين عاماً، مميزاً وعصرياً، وأفضل مما هو عليه الآن بكثير، سواء من ناحية المدرسين أو المناهج أو الإدارة. وكنا كطلبة نشعر بذلك الاهتمام، وبرغبة المسؤولين في تغيير مجمل أوضاعنا للأفضل، تعليماً وغذاءً وصحةً، من خلال الحرص على نوعية الأغذية التي كانت تقدم لنا، ونوعية وطراز ما كنا نرتدي في المدرسة، وسلوكنا ونظافتنا، والاهتمام حتى بطراز وجودة أحذيتنا. أما الآن، فالاهتمام منصب تقريباً على إطالة العطل، وحشو المناهج بالسقيم من الأفكار المتخلفة، وتجنيد جيش من المعلمين، المشبعين بالأفكار السياسية الدينية، بحيث أصبحت مهنة التعليم، عند المبدعين، مهنة طاردة.
***
كانت أشهر الصيف قاسية في حرارتها، ولم نكن حقيقة نفتقد مكيفات الهواء، والسبب أننا لم نكن نعرف أصلاً بوجودها، والإنسان بطبيعته لا يطالب بشيء لا يعرفه، ولكن ما إن دخلت حياتنا حتى أصبح العيش من غيرها صعباً جداً.
كانت مراوح السقف أو الطاولة قليلة، ومع هذا كانت تقوم بعمل جيد، ثم اختفت تدريجياً من حياتنا تماماً، مع قدوم نظام التبريد الحديث. كما كانت الحكومة تلجأ، لتقليل درجة الحرارة في الأسواق والأحياء، إلى رشها بالمياه من صهاريج البلدية، التي تقوم بالتجول في الأسواق والأحياء، وكنا نرى بخار المياه المرشوشة يرتفع من الأرض المتربة، وكنا نلهو بالركض خلف تلك الصهاريج، وهي ترش مياهها، ونحن غاية في السرور.
***
وللتخلص من الكم الكبير من الذباب الذي كان يتكاثر بشكل غريب خلال الصيف كانت وزارة الصحة، أو ربما البلدية، تقوم برش الأسواق بمادة الـ«دي دي تي» ddt للتخلص من الذباب والبعوض، من خلال مركبات مزودة من الخلف بخزان لمادة الـ«دي دي تي،» ومولد يحول المادة السائلة إلى بخار أبيض كثيف، يندفع بقوة من خلال فوهة تشبه المدفع لمسافة عشرة أمتار أو أكثر. وكنا كأطفال نجري خلف تلك المركبات، والسعيد من ينجح في الوصول إلى حلق الفوهة، والاختفاء تماماً في الغيمة البيضاء التي كانت تخلفها، وكان سائق المركبة، رحمة بصحتنا من خطورة ملء رئاتنا الغضة بتلك المادة السامة، يزيد من سرعة مركبته للابتعاد عنا، وتقليل ضرر استنشاقها، وكان تصرفه يثير غيظنا ويدفعنا إلى الجري بسرعة أكبر، وزيادة خفقان قلوبنا، وزيادة حاجتنا للأكسجين.
بعدها بعقدين من الزمن تقريباً منعت الولايات المتحدة استخدام تلك المادة لمضارها، وعرفنا تالياً أنها مكونة من مواد سامة تستخدم لإبادة الحشرات، ولا أدري كيف قاومت رئاتنا الصغيرة التأثيرات الصحية الضارة لاستنشاق تلك المادة بتلك الكميات الكبيرة نسبياً؟
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw