لعنة الأرض الطاهرة
قررت بريطانيا عام 1947 إنهاء استعمارها للهند، وخضعت لرغبة زعماء المسلمين، بقيادة محمد علي جناح، في أن تكون لهم دولتهم، فظهرت باكستان، أو أرض الطهارة، للوجود في أغسطس 1947!
إصرار قادة الدولة الجديدة على تأسيسها على أيديولوجية دينية كلف شعبها المليارات، بخلاف فقد الملايين لأرواحهم وممتلكاتهم وكل ذكرياتهم، مع حركة تهجير غير مسبوقة في العصر الحديث لملايين البشر من الهند إلى باكستان، أو العكس، مع ما صاحب ذلك من حرائق وتخريب، وكل ذلك تحقيق لحلم بأن المسلمين سيكونون في أمان في دولتهم، لكن تبين سريعاً خواء تلك الفكرة، فقد اضطهد الجزء الغربي من باكستان الجزء الآخر الشرقي، أو البنغالي، منه، ولم تمنع ديانة الدولة الواحدة من استغلال أحدهم للآخر، الأكثر ضعفاً، والتنكيل به ذبحاً، لينتهي الحال بانفصال الجزأين، ولتخرج للوجود «بنغلادش»!
تأسست باكستان في وضع مربك، ورافقها هذا الإرباك حتى يومنا هذا، فالأمور لم تستقر بينها وبين جارتها العملاقة، الهند، ودفعها خوفها إلى أن تنفق كل مواردها، المحدودة أصلاً، على التسليح وحيازة القنبلة النووية، وهذا أدخلها في حروب عدة، كانت نتائجها مأساوية، مع بقاء جرح كشمير نازفاً، ربما للأبد. وبالتالي لم تهنأ باكستان بالهدوء، الاقتصادي والسياسي، منذ استقلالها قبل 75 عاماً، فقد توالى على رئاستها نحو 28 رئيساً، قلة منهم لم تنلها الإهانة والاتهامات الخطيرة والسجن والنفي وحتى القتل، وانعكس كل ذلك على وضع الدولة التي أصبحت معتمدة كلياً على ما تتلقاه من مساعدات خارجية. كما أصبحت مصدراً للعنف الديني، ومقراً لعصابات طالبان، وملاذ كل هارب من العدالة الدولية!
يتساءل الزميل الأستاذ محمد الرميحي عن سبب نجاة الهند نسبياً من الاضطرابات السياسية، التي سقطت أو عانت منها جارتها، على الرغم من تقارب النسيج الاجتماعي بينهما، ويجيب بأن الهند أكثر تعددية، عرقياً واجتماعياً وفئوياً وحتى لغوياً، لذلك احتاجت إلى عقد اجتماعي حديث وتمسكت به، وهو الدستور الهندي الذي نظم العلاقات، وهذا أنقذ الهند من السقوط في حروب أهلية، رغم عمق ما بها من خلافات واختلافات، كما حدث لباكستان! كما أن دور العسكر في الهند كان منضبطاً منذ الاستقلال. أما العسكر الباكستانيون، فقد دسوا أنوفهم في السياسة تحت شعار الدفاع عن الدولة ضد أعدائها، وبذا لم تتصالح باكستان يوماً مع الديموقراطية، بل تميزت بأنظمة عسكرية دكتاتورية توالت على الحكم، الواحدة تلو الأخرى، ثم جاءت الطامة الكبرى مع ضياء الحق عام 1977 الذي قاد باكستان نحو «الأسلمة» القسرية، هروباً من استحقاق ديموقراطي، وساند عمليات التصدي للسوفيت في أفغانستان، مقابل معونات ضخمة من أميركا، ثم كان مقتله تالياً في حادث طائرة، ثم جاءت أخيراً مرحلة لاعب الكريكيت السابق، عمران خان، المراوغ، الذي أعاد المظاهر الدينية المتشددة لبيته ومن ثم لوطنه، ولم يستفد من دروس ومصير من سبقوه! كل هذا جعل باكستان، كما كتب الأستاذ الرميحي، غير قادرة على البقاء خارج الاضطرابات، إذ إن الصراع بين الأجنحة الدينية، والقبائل وبين العسكريين والمدنيين، على مختلف القضايا، والخلاف مع الهند على كشمير، يمنع وجود حكومة مستقرة وغير فاسدة فيها، بإمكانها استغلال خيرات البلاد التي أهملت تماماً منذ الاستقلال. ويبدو أن لعبة كسر العظم ستستمر طويلاً. ونضيف أن الدول «الأيديولوجية» محكومة بالفشل، فما تحتاج إليه باكستان هو أن تكون دولة «عادية»، كالدول الأخرى، وهذا ما نجحت فيه بنغلادش، إلى حد ما، فأصبحت أكثر استقراراً وغنى من باكستان.
ما لا يعلمه الكثير أن باكستان تحتل المرتبة الثانية من حيث معدل الأمية في جنوب آسيا بعد أفغانستان. كما أن صادراتها تكاد تكون شبه معدومة، مقارنة بالهند. وليست في جداول سياحة أية دولة. وربما كان استقلالها عن الهند وبالاً عليها، والدليل المستوى المعيشي الجيد نسبياً الذي يعيشه المسلم الهندي مقارنة بأخيه المسلم الباكستاني.
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw