للراغبين والحالمين بزوال أميركا
لا أستغرب مواقف أكاديميين أو مثقفين يساريين، أو من تبقى منهم، ولا مواقف أنصاف المتعلمين، ولست بعيداً عنهم، إن «انتشوا» بخبر معاداة الغرب، وأميركا بالذات، أو وقفوا مع روسيا، في حربها ضد أوكرانيا، ليس حباً بها، إنما لبغض وكره لأميركا و«أذنابها»، لكني أستغرب بألم مواقف رجال أعمال، وأبناء وأحفاد رجال أعمال، ورأسماليين حتى النخاع، من أميركا، وكل ما تمثله، وإصرارهم على الوقوف في صف القوى المعادية للغرب بكل ما يمثله الغرب من ليبرالية في الحياة والعمل، و«يسكرون» حتى الثمالة حتى لو ضرب إعصار دولة غربية، وهم على ثقة تامة بأنهم إن اضطروا يوماً للاختيار بين اللجوء لروسيا أو للغرب، لما ترددوا للحظة في اختيار الثانية!
لست في معرض الدفاع عن أميركا، فكل القوى العظمى، برأيي مجرمة، وتبحث عن مصالحها، ولكن هناك مجرماً أقل إجراماً من غيره. ولو أصبحنا يوماً بقوة أميركا، لما قلّ إجرامنا عن إجرامها!
***
اخترع الإنسان الحالي العاقل homo sapiens، الذي ينتمي إليه جميع البشر المعاصرين، والذي يعود نوعه إلى ما لا يزيد على 200 ألف سنة، اخترع طوال تاريخه مئات الاختراعات، لكن اتفق الباحثون على أن أعظمها ثلاثة:
النار: فقد مكنته السيطرة عليها من السير بالحضارة الإنسانية، إذ وفرت له الدفء والضوء والطهي والحماية.
كما كانت العجلة ثاني أهم الاختراعات، وعرفها أهل ما بين النهرين قبل 5500 عام، وساعد اختراعها الإنسان في تطوير النقل والزراعة والصناعة والبناء، وإيصال المعارف إلى بقية دول العالم، ولولاها لما كانت هناك مركبة أو قطار أو طائرة.
وثالث الاختراعات المطبعة، التي اخترعها «جوتنبرغ» في القرن الخامس عشر، وأحدثت ثورة في نشر المعرفة والثقافة والعقائد.
أما في العصر الحديث فيعتبر الهاتف النقال، في نظري، الجهاز الأكثر تأثيراً وأهمية وخطورة في حياة بشر القرن الحادي والعشرين، سلباً وإيجاباً، بعد أن همّش أو ألغى دور الهاتف الأرضي، والتلفزيون، والسينما، والفاكس، والتلكس، والكاميرة، وأجهزة النسخ والتصوير، والرسائل الورقية، والصحف المطبوعة، والمكالمات الخارجية المدفوعة واللابتوب والساعة والمصباح، ومفكرة وتقويم المكتب، والمنبه، ومرآة الجيب، والبوصلة، وأدوات قياس الارتفاعات والمسافات، والقاموس، والمساعد اللغوي، وأصبح أداة مهمة لكشف الجرائم، والمخالفات والحوادث، لوجوده في اللحظة بيد شخص ما. كما أصبح الانتظار، حتى في أكثر الأماكن جلباً للسأم، كالعيادات والمستشفيات، أمراً عادياً، وأصبح يستخدم في رياضة المشي ومعرفة انتظام دقات القلب، ومراقبة المصنع والمنزل والمكتب عن بُعد، ومفكرة لحفظ الأرقام السرية، وتدوين الأفكار والملاحظات، وآلة تسجيل، وأغنى حامله عن القلم، وأصبح بالإمكان تشغيل كل أجهزة المكتب والبيت والمصنع به، عن بُعد وعن قرب، وأداة ترجمة فورية من وإلى أية لغة، وبه تُدار الحسابات المصرفية، من دون الاضطرار لزيارة البنك، وأداة لتحويل وتلقي الأموال، وعشرات الوظائف والمهام الأخرى التي لا يتسع المجال لذكرها.
على الرغم من كل مزايا الهاتف النقال، فإنه يعتبر اختراعاً أميركياً صغيراً، ومع هذا فقد حقق أحد أصغر منتجاته، وهو جهاز سماعات الأذن airpod، الذي يستخدم للرد على مكالمات الهاتف النقال من دون استخدام اليدين، إيرادات ضخمة، بالرغم من قصر عمره النسبي، فقد بدأ تسويقه عام 2016، ومع هذا حقق في 2022 إيرادات بلغت 14.5 مليار دولار، نصفها أرباح، وهذا منتج واحد فقط، لشركة أبل العملاقة، التي تقارب قيمتها السوقية 3 تريليونات دولار، وهي الشركة التي برعت في التنفيذ التدريجي لاستراتيجية طويلة المدى، منذ تأسيسها، قبل 43 عاماً، والتي اشتهرت بأنها تقدم دوماً منتجات جديدة، بحيث أصبحت «أبل» تعرف في الواقع ما يريده أو يحتاجه مستخدم الهاتف، قبل أن يعرف هو ما يريد، وهذا سر عظمتها وقوتها، وقوة وعظمة أميركا.
أحمد الصراف
a.alsarraf@alqabas.com.kw