ما الذي حدث؟
تاريخيا، عارض رجال الدين التعليم، وخاصة للإناث. وواجهت خطط توفير التعليم للبنات في السعودية مثلا، في سبعينات القرن الماضي، معارضة شديدة منهم بحجة أنهن سيتعرضن للمضايقة في الطريق، فتعهدت الدولة بتوفير الحافلات، سكتوا، ثم اعترضوا بحجة امكان تلفظ المارة عليهن بما يسيء وهن في الحافلات، فظللوا زجاجها بما يمنع الرؤية، فسكتوا ثم اعترضوا أيضا بحجة عدم معرفة ما يجري في داخلها، وخطورة اختلاء السائق بهن، فتم توظيف زوجات السائقين كمرافقات لمنع الاعتداء! هذا ليس خيالا، بل هذا ما رواه لي «أبوعطيش» الذي كان والده يعمل سائق حافلة في ذلك الوقت، وكانت أمه مراقبة له على الحافلة نفسها!
هلع رجال الدين، ورفضهم تعليم الفتيات لم يكن من منطلق الخوف عليهن، بل الخوف منهن! فقد سبقه خوفهم واعتراضهم على تعليم الذكور، وعندما توفر التعليم لهؤلاء ركزوا جهودهم على منع تدريس مواد كالكيمياء والفيزياء والمنطق والفلسفة، ولا يزال الكثير منهم يحرم تعلم الإنكليزية، لما يؤدي إليه تعلمها من انكشاف على «الكفار»! كما أن اعتراضاتهم هذه تنبع أيضا من رغبتهم في الاحتفاظ بمكانتهم كـ«علماء»، وأن يبقوا مصدر العلم والمعرفة الوحيد. وأتذكر، عندما عملت لدينا خادمة، أن البعض حذرنا من السماح لها بعطلة الأحد، لأنها ستتعلم وتطالب بحقوقها! وهذا يعني أنه كلما زاد جهل العامل، أو حتى الابن أو الابنة، والمواطن بشكل عام، سهلت قيادته، ومن هذه الزاوية يمكن تفهم سبب اعتراض «الملالوة» على تلقي العامة للعلم من على يد غيرهم!!
ما حدث في تونس ومصر أكد ويؤكد صحة مخاوف رجال الدين، فبغير العلم والانفتاح على العالم وتعلم لغاته والاحتكاك بثقافاته ما كان لهؤلاء الشباب أن ينهضوا ويطالبوا بحقوقهم المدنية والإنسانية، فهؤلاء لم يكونوا في غالبيتهم مجموعة من الغوغاء الجوعى العاطلين عن العمل، بل عكس ذلك تماما، فما تلقوه من تعليم وما اكتسبوه من ثقافة ومعارف جعلهم يعقدون المقارنة تلو الأخرى ويطرحون السؤال بعد الآخر عن سبب كل هذا الظلم الذي يحيط بهم، وكل هذا الفساد المالي والإداري الذي لا يسمع به في الغرب مثلا، ولماذا تتداول السلطة في دول العالم وليس في بلدانهم؟ ولماذا تتمتع شعوب متواضعة، تاريخا وإمكانات، بكل هذه الحريات، ولا يوجد ما يقترب منها لدى أحفاد هنيبعل والفراعنة؟ ولماذا يعيش الناس كالبشر هناك ولا يوجد ما يماثل ذلك هنا؟ وغير ذلك العشرات من الأسئلة التي فجرها التعليم في أذهان هؤلاء ومكنهم من رؤية ما يجري في العالم وتحليله والاستفادة من تقنيات الاتصال الحديثة التي جعلت العالم قرية صغيرة.