لنجعل المقاطعة أكثر إيجابية
«عندما يكون الجهل نعمة، في مجتمع ما، فمن الحماقة أن تكون حكيماً».
توماس جراي (1716–1771)
* * *
«تويتر» أو منصة x، رائعة لإيصال فكرة ما، ومخيفة، في الوقت نفسه بسبب الكم الهائل من المشاركين، الذين على استعداد للخروج من خدورهم، وغالباً من «جحورهم»، لإمطار المغرد بكم هائل من الردود المقذعة، ومن مجهولي الهوية، في الغالب، وهذا ما لمسته مع تغريدات عدة، كان آخرها ما تعلق بمعارضتي لمقاطعة بضائع معينة، حيث حصدت 2.2 مليون مشاهدة، في مجتمع يفترض أن عدد نشطاء «توتير» فيه لا يتجاوز الـ100 ألف!
لم أكتب مدافعاً عن الشركات التي تمت مقاطعتها، فهؤلاء يعلمون جيداً أنهم معرضون للخسارة وللربح، لكني أدافع عن المنطق، الذي غاب كلياً. فمأساة غزة كشفت الكثير من الأقنعة، فأين كانوا، طوال 70 عاماً، من هاجموني، من قضية الفلسطيني الذي يهان ويهجر ويقتل؟ فقضيته ومأساة أهالي غزة لا يخفف من أهوالهما توقفنا عن شرب فنجان قهوة، بل من خلال دعمها إيجابياً، لكننا أمة تؤمن بالكلام، لأنه لا يكلف شيئاً.
* * *
بدأت فكرة مقاطعة إسرائيل بمبادرة من الحكومة السورية قبل سبعين عاماً، ليصبح مكتبها تالياً تابعاً للجامعة العربية، وليصبح قوة أضرت بإسرائيل كثيراً، قبل أن تفقد المقاطعة زخمها بالتدريج، مع تغلغل الفساد إلى أركان المكتب في دمشق، بعد تكرار فرض المقاطعة على شركات، لأسباب واهية، ورفعها عن غيرها، لأسباب واهية أكثر، لتفقد الدول ثقتها في قراراته، وليفقد المكتب أهميته مع الوقت، بحكم الواقع، خصوصاً مع توقيع بعض الدول العربية لاتفاقيات سلام تمنعها من المقاطعة، كمصر والأردن ومنظمة التحرير. كما قاطعت المقاطعة دول أخرى بمحض إرادتها، وربما بقيت الكويت وحيدة في الميدان، وتضاعف دورها، ليشمل مراقبة حتى المنتجات التي تأتي إليها من دول «شقيقة» خوفاً من أن تكون بضائع إسرائيلية الصنع، مهربة عن طريقها!
* * *
رفض شراء منتج، أو التعامل مع شركة، أو مقاطعة دولة بكاملها، تصرّف أو وسيلة مشروعة للتعبير عن رفض هذه الجهة أو تلك. وقد تكون المقاطعة شاملة، كما حدث مع نظام جنوب أفريقيا، أو الاكتفاء بالتركيز على منتج له عادة تأثير مادي ومعنوي موجع. لكن جهات وأفراداً، ربما لدينا فقط، وغالباً بسبب قلة الحيلة، قرروا مقاطعة منتجات محددة، وضعوا «حرتهم» أو غضبهم فيها، واختيرت بشكل عشوائي لا علاقة له بحقيقة مواقف أصحابها من القضية الفلسطينية، حالياً وتاريخياً!
سيعود المقاطع قريباً جداً عن مقاطعته، وغالباً بشوق أكبر، كما حصل في حالات سابقة، خاصة أن من تأثر هو الوكيل المحلي، وليست الجهة التي أردنا معاقبتها، وهي أميركا، لدعمها غير المحدود للعدوان الإسرائيلي على أهالي غزة. وكان من المجدي أكثر توجيه غضبنا لفعل إيجابي، فآلام ومآسي أهالي غزة، وحاجتهم إلى الماء والطعام والدواء لا يمكن تخفيفها بامتناعنا عن شرب فنجان قهوة، ولا افتعال معركة مع عامل فلبيني يعمل في محل بيعها، بل بالتوجه نحو جمعية الهلال الأحمر، مثلاً، والتبرع، ولو بعشرة دنانير، لدعم صمود أهالي غزة والتخفيف من معاناتهم.
أكرر ما ذكرته في مقال أمس عن تبرعي بحمولة شاحنة من المستلزمات الطبية للهلال الأحمر الكويتي، لإيصالها للمحتاجين في غزة، راجياً من المقتدرين الاقتداء بما قمت به. فما يحدث هناك هو بحكم الكارثة الإنسانية، التي لم يعرف لها مثيلاً في منطقتنا، كما أنها تمثّل تجسيداً لنضال الشعب الفلسطيني في سبيل نيل حقوقه.. كاملة.
أحمد الصراف