قصتي مع الكرم العراقي والبخل الكويتي
تقوم الـ«بي بي سي» bbc منذ سنوات بإجراء استقصاء يتعلّق بأكثر الشعوب كرماً في العالم. تربعت، في تقريرها الأخير، أندونيسيا، أكبر دولة إسلامية، وللسنة السادسة على التوالي، على رأس القائمة، تلتها أوكرانيا، ودولة أفريقية، حيث كانت الأفضل سخاءً في المجالات الثلاثة التالية:
تقديم المساعدة، بمختلف أنواعها، لمن لا يعرفون. التطوع بوقتهم لمساعدة الغير في مجالات مختلفة، وثالثاً، التبرع بالمال لقضية خيرية، وذلك وفقاً لمؤشر العطاء العالمي لعام 2023 التابع لمؤسسة المعونة الخيرية. كما احتلت ميانمار، التي تعصف بها الحروب الأهلية، مرتبة متقدمة.
بيّن استطلاع آخر للجهة نفسها أعلاه أن العراقيين يعتبرون أكثر العرب كرماً اتجاه الغرباء والمحتاجين! وقد ذكرتني هذه النتيجة بحادثة محرجة تعرّضت لها قبل 65 عاماً تقريباً، عندما كنت أقضي الصيف وأسرتي في لبنان، حيث كنت أجالس أقراني على مقهى يقع أسفل فندق متواضع وصغير، يديرهما مالكهما اللبناني. تجرأت يوماً وسألته، وأنا واثق من الإجابة، عن أفضل جنسيات الزبائن لديه، ففاجأني بالقول إنه السائح العراقي! صدمت من إجابته، وعندما قرأ استنكاري على وجهي، استطرد موضحاً بأن العراقي يشتري منه مواد وأموراً لا يطلبها الكويتي (لم يذكرها، لكني خمنتها). وقال إن الكويتي يأتي إلى الفندق حاملاً معه، من الكويت، علب الشاي والحليب وأكياس الأرز البسمتي، وحتى فحم الأرجيلة، أو القدو، مع التمباك، وبالتالي بالكاد يستفيد منه الفندق، بخلاف أجرة الإقامة. وعندما حاولت أن أبيّن له السبب، حسب فهمي المتواضع حينها، والذي لا يزال بتواضعه نفسه، لم يكترث، وقاطعني بأن العراقي أيضاً أكثر سخاء في «الإكرامية».
تأكد لي صحة كلامه عن بخل الكويتي مع الإكرامية بعد أكثر من 65 عاماً، وبعد تجاربي مع مشاريع مطاعم، حيث أعلمني من كانوا ولا يزالون يديرونها، أن الضيف الكويتي هو الأكثر بخلاً في البقشيش، وبالكاد يترك شيئاً للعاملين في المطعم، الذين يعتمدون في جزء من دخلهم عليه.
كما ترسّخ هذا الانطباع لديّ مع تجاربي في جمع التبرعات لجمعية الصداقة الإنسانية «الخيرية». فبالرغم من كل ما تمتاز به الجمعية من شفافية عالية ومزايا لا تتوافر في أية جمعيات خيرية، وتفردها بعدم استقطاع العاملين عليها لأية نسبة لأنفسهم، ولو ضئيلة من التبرعات التي تصلهم، فإن المتبرعين، المستدامين للجمعية، هم في أغلبيتهم من غير الأثرياء، وهذا يؤكد تجربة أندونيسيا مع الكرم، وأن لا علاقة للأمر بالغنى أو الفقر.
وترسخت القناعة أكثر وأكثر مع مأساة أهالي غزة، وأثبتت لي أننا بالفعل شعب بخيل جداً، بشكل عام. فبالرغم من كل عواطف الأمة الجياشة تجاه مأساة الفلسطينيين، وكل ما أبدوه من تعاضد وتضامن مع أهالي غزة، وكل ما تكلموا عنه وقاموا به من «مقاطعة»، وكل الدموع التي شعرت بها أو رأيتها، حتى في عيون أهل وأصدقاء، وكل كلمات الشكر والثناء، من خلال اتصالات هاتفية ورسائل نصية، على ما قمت به من مبادرات وتبرعات تجاه أهالي غزة، فإن قلة قليلة أبدت جميل استعدادها للمساهمة معي في إرسال المستلزمات الطبية للمنكوبين في القطاع الجريح.
الحقيقة مؤلمة، ولن يغيرها إنكارنا لها، وأنا أتكلم هنا بشكل عام، فالكرماء الذين تبرعوا بالملايين لجمعية الصداقة لا يمكن إنكار كرمهم، ونسيان جميل أفعالهم، لكنهم يبقون قلة قليلة جداً، في بحر واسع من شديدي الثراء، وقليلي السخاء!
أحمد الصراف