أرض بلا شعب.. لشعب بلا أرض
تكرّر سماعي لهذه العبارة كثيراً منذ أن وعيت على القضية الفلسطينية، قبل أكثر من 65 عاماً، وعلى وقعها كتبت التغريدة التالية، بلغتين:
«على مدى 75 عاماً، ظل الصهاينة يقولون للعالم إنهم كانوا بحاجة لوطن، وإنهم اختاروا فلسطين، لأنها أرض بلا شعب، وهم شعب بلا أرض! هل من يشرح لي من هؤلاء العشرون ألفاً الذين قتلوا في غزة؟ ولماذا قتلوا؟».
* * *
اعترض البعض على صحة التغريدة، وهاجمها صديق، فقررت البحث في خلفياتها، وكيف تطورت لشعار سياسي صدقته مؤسسات وجامعات غربية، وأصبح لدى البعض حقيقة لا تقبل الجدال.
تنسب العبارة للقس الإنكليزي ألكسندر كيث، الذي قام في 1839 بزيارة لفلسطين، العثمانية، وكتب في 1843 بأن اليهود تائهون في العالم، ولا مكان لهم، فهم شعب بلا دولة، ووجد لهم دولة بلا شعب. كما كتب رئيس «جمعية لندن لتعزيز المسيحية بين اليهود» كتاباً في يوليو 1853 لرئيس وزراء بريطانيا، أبردين، يخبره أن «سوريا الكبرى» دولة بلا أمة في حاجة إلى «أمة بلا دولة»!
وهذا هو واللغو سواء.
في 1875، قال اللورد شافتسبري، أمام الاجتماع العام السنوي لصندوق استكشاف فلسطين: «لدينا هناك أرض تعج بالخصوبة وغنية بالتاريخ، ولكن تقريباً من دون سكان، وهناك شعب بلا وطن!».
وكان للمبشر الإنكليزي الشهير ويليام يوجين بلاكستون دور في تأكيد هذه الجملة، ودور أكبر في نفي واقعيتها، فقد قام برحلة للأراضي المقدسة في 1881، وأصبح متحمساً لفكرة الاستيطان، وغالباً بسبب الذهول والأسى اللذين طغيا على أبناء جيله للمذابح العظيمة، التي تعرّض لها اليهود الروس على يد حكومتهم.
إلا أنه بعد وقت قصير من عودته من رحلته إلى فلسطين كتب، في سياق قلقه على مصير يهود روسيا: «والآن، في هذا اليوم بالذات إننا نقف وجهاً لوجه مع المعضلة الفظيعة، المتمثلة في أن هؤلاء الملايين (اليهود) لا يمكنهم البقاء حيث هم، ومع ذلك ليس لديهم مكان آخر يذهبون إليه!».
كما قام إسرائيل زانغويل، الصهيوني المعروف، بتكرار مقولة وطن بلا شعب، لكنه أصبح تالياً مناهضاً للصهيونية، وتغيرت آراؤه، بعد سنوات قليلة، وأصبح استخدامه للعبارة مختلفاً، بعد أن «أدرك تماماً الخطر العربي»، حيث قال أمام جمهور في نيويورك: «إن فلسطين لديها سكانها بالفعل، فالكثافة السكانية في القدس هي ضعف كثافة سكان الولايات المتحدة»، مما يترك للصهاينة خيار قيادة العربة، فإما خروج العرب أو التعامل مع «عدد كبير منهم». وبالتالي نقل دعمه لفكرة إنشاء وطن قومي لليهود ليصبح المكان أوغندا، كما اقترح غيره الأرجنتين.
بعد انفصال زانغويل عن الحركة الصهيونية في 1905، قال إنه كان ساذجاً في آرائه، وإن في فلسطين كثافة سكانية عربية. وهاجم أولئك الذين أصروا على تكرار أن فلسطين «فارغة ومهجورة». ووفقاً للمؤرخ زئيف جابوتنسكي، فإن زانغويل قال في 1916: «إذا كنت ترغب في إعطاء بلد لشعب ليس لديه بلد، فمن الحماقة المطلقة السماح له بأن يكون بلداً لشعبين. هذا لا يمكن إلا أن يسبب المتاعب. «سوف يعاني اليهود، وكذلك جيرانهم من الأمر، وعلينا الاختيار بين إيجاد مكان مختلف إما لليهود أو لجيرانهم. ففي فلسطين حينها كان هناك شعب لا يقل تعداده عن 600 ألف عربي».
وفي عام 1914، قال حاييم وايزمان، رئيس المؤتمر الصهيوني العالمي، وأول رئيس لدولة إسرائيل، إن من المهم التفاهم مع «أصحاب البلاد»، ومحاولة وضع الجوهرة في الخاتم، وتوحيد الشعبين، وتزاوجهم «العملي»، وعلى «الأتراك العثمانيين» أن يكونوا مقتنعين بأنه زواج مفيد، ليس فقط لليهود، بل ولهم أيضاً. وهذا دليل على أن الجملة لم تكن «شعاراً صهيونياً» في البداية، بخلاف استخدامه بكثافة من اليهود المتحمسين للفكرة.
أحمد الصراف