وهم التقارب الديني والمذهبي
منذ السبعينيات وجهود البعض الشخصية والمؤسسية منصبة على بناء التقارب مع الآخر، المختلف عقائدياً عنه، والطرفان على علم وثقة بأن الأمر يستحيل قبوله، من أي منهما، مهما طال الزمن، بغير تنازل طرف للآخر عن جزء من عقيدته.
كانت بداية محاولات التقارب بين المذاهب السنية الأربعة، ومحاولة إزالة ما بينها من فروقات، لكنها فشلت، لرفض أي طرف التنازل للآخرين عما يعتقده صحيحاً، والصعوبة تمثلت في تعدد أطراف الخلاف. ثم تبعت ذلك محاولات للتقارب بين المذاهب السنية وبين بعض ممثلي المذهب الشيعي، وفشلت أيضاً، وللأسباب نفسها، إضافة لحقيقة عدم وجود مرجعية واحدة لكل من أطراف اللقاء الخمسة، لحسم الأمور، فمن شارك مثّل نفسه غالباً.
ثم امتدت محاولات مد الجسور بين أصحاب العقائد، لتشمل التقارب بين المسلمين، من سنة وشيعة، وبين بعض الكنائس المسيحية، وكانت اجتماعات مضحكة بالفعل، فالاختلافات العميقة بينها هي بعمق الاختلافات نفسه بين كل طرف وآخر، من الفريق نفسه، وهو وضع مثير للشفقة، وكانت تنتهي بتناول الفخم من الولائم، تسبقها ابتسامات، ومصافحات وقبلات، وكلمات ترحيب، لتنتهي بمصافحات أقل، مع اختفاء القبلات، وتحول الابتسامات لتجهمات.
وبالتالي من المتوقع أن يكون الفشل مصير أية مؤتمرات مستقبلية للأسباب أعلاها، فلا قيادة ولا مرجعية يحق لها منفردة الحديث عن الدين أو المذهب، تكون قادرة على فرض رأيها بخلاف الفاتيكان، أو أية جهة أخرى!
كما يعلم كل طرف أن أساس وجوده يعود إلى اختلافات وتفسيرات تفرقه عن الآخر، وبغيابها سيفقد هذا الطرف أو ذاك مكانته ومبرر وجوده، فكيف يقبلون بإزالة الخلافات، إن كان فيها حتى إضعاف لمكانتهم، التي بنيت على الاختلاف وليس الالتقاء، سواء ضمن الدين أو المذهب الواحد، أو مع أتباع العقائد الأخرى.
* * *
يقول الزميل السعودي توفيق السيف، معلقاً على مقال كتبه الإسلامي اللبناني رضوان السيد، في تعقيبه على نقاشات المؤتمر الدولي لبناء الجسور بين المذاهب الإسلامية، الذي استضافته السعودية مؤخراً، حيث دعا فيه الهيئات الدينية إلى تبني مفهوم محدد لتجديد الفكر الديني، محوره فهم «المعروف في إطار عالمي»، وإطلاق مبادرات مشتركة تجمعُ النخبَ الدينية الإسلامية مع نظرائها في المجتمعات الأخرى، هدفُها تعزيز المفاهيمِ والأعمال، التي يتَّفق فيها أهلُ الأديان وتخدم البشرية بشكل عام. ويضرب مثالاً على هذا بالمبادراتِ الرامية إلى إغناءِ الحياة الروحية، وحياة الأسرة وتطوير التعليم، وحقوق المرأة والطفل. ويعلق الزميل سيف بأنه على السطح تبدو المهمة سهلة، فهو طموحٌ مشتركٌ لجميع محبّي الخير في العالم، لكنَّ الشيطانَ يكمن في التفاصيل، كما يقول الإنكليز. فالتعاون يحتاج إلى تعارف، يتلوه اعترافٌ متبادلٌ بحقّ كلِّ طرفٍ في اختيار طريقة عيشه في الدنيا وسبيلِ نجاته في الآخرة. هذا يعني بصورة محددة القبولَ العلني بتعددية الفهم الديني، أو على وجه الدقة، الفصل بين المصدر الأصلي للدين، وبين المعارفِ والشروحِ والتفسيرات التي قامت حوله، والتي نسمّيها معارفَ دينية أو تراثاً دينياً، والتي هناك خلافٌ عريضٌ حولها، لا سيما المعارف التي أنتجها رجال الدين طوالَ القرون السالفة. فهذا التقارب يتطلب الاعتراف بتعددية المعرفة الدينية والتفسير، أي تعددية الاجتهاد في إطار الشريعة الإسلامية. وقبوله يعني، بالضرورة، قبول تعدد المذاهب والآراء مهما بعدت عن قناعات الطرف الآخر، وأنَّ تطوراً كهذا سوف يعيد هيكلة الفهم الديني، ليس على مستوى العلاقة مع غير المسلمين فقط، بل حتى على المستوى النظري، أي فهم النص الديني والاجتهاد في إطار الشريعة!
وهذا بنظري لن يتحقق، وسيبقى كل طرف متخندقاً في حفرته!