علماء.. وما هم بعلماء!
من مشاكل مجتمعاتنا المستفحلة الزيادة الهائلة، وغير الطبيعية، في أعداد رجال الدين، سواء في الأجهزة الحكومية، أو المدارس، أو المجتمع ككل، علماً بأنه حتى منتصف السبعينيات كانت أعدادهم ضمن المعقول، وفجأة زادت أضعافاً مضاعفة مع طفرة أسعار النفط، وبالتبعية زيادة إيرادات الدول الخليجية المنتجة له، وما رافق ذلك من اشتعال الحروب في المنطقة، وحاجة بعض الأنظمة لرجال دين يبررون الصرف على العمليات الخارجية من جهة، ويجمّلون بعض الأنظمة. وأصبح لرجل الدين دور، وهذا أغرى حتى الدخلاء لأن ينظموا للفريق. ولكي يكون لكل منهم أهميته، فقد سعوا لأن يكون للبعض منهم تصورهم الخاص للدين، وتفسيرهم الأكثر دقة للنصوص، من وجهة نظرهم، ومع الوقت عيّنوا أنفسهم وسطاء بين البشر والملأ الأعلى، يحق لهم إعلاء مكان هذا وإهدار دم ذلك.
لم ألتقِ في حياتي برجل دين يعمل «لوجه الله»، كما يُقال، مهما زاد ثراؤه، بل كلهم يعملون تقريباً من أجل المال والمكانة، ويتنافسون، ويتخاصمون، بشكل مثير للشفقة، على عضوية اللجان الشرعية في المصارف وشركات الاستثمار اللاربوية، وعلى مجالس إدارات الجمعيات الخيرية، ذات المردود العالي، ومع الوقت أصبحوا من «العلماء»، فما أن يدخلوا مكانا عاما أو ديوانا حتى تقوم لهم القامات، وتقبّل أياديهم واكتافهم، ورؤوسهم وما عليها من عمائم، وما يلقاه هؤلاء من ترحيب، لا يلقاه حتماً العالم الحقيقي، المتخصص في علم الفيزياء أو الأحياء، أو الطبيب الفذ الذي أنقذت أنامله حياة المئات، وربما الآلاف من البشر!
لو فكرنا قليلاً، ووجدنا في أنفسنا ما يكفي من ثقة وشجاعة، وامتلكنا كمسلمين، ما يكفي من ملكة القراءة والكتابة، لوجدنا أننا لسنا بحاجة، في هذا العصر بالذات، لرجل الدين، لغير أمور الزواج، أما غير ذلك من طلاق وإرث وتركة، فإن الإدارات الحكومية قد تكفلت بذلك في كل الدول الإسلامية تقريباً. كما يمكن بالعودة لجهاز الهاتف معرفة الكثير، ففيه ما يغنينا عن كل كتب العالم في الدين، وفي أدق تفاصيل العقيدة والمذهب، وكل ما يتعلق بالفتاوى، وكيفية أداء الفرائض، وحتى أدق تفاصيل الحج والعمرة، وغير ذلك، ونجدها غالباً أشمل وأكثر دقة مما يعرفه أكبر رجل دين. فكيف يكون هؤلاء علماء في الوقت، الذي يمكن فيه الاستغناء عن «كل علومهم»، بما يحتويه جهاز هاتف نقال، مستعمل، لا يزيد ثمنه على خمسين ديناراً، من معلومات وصور ومقارنات وآيات وتفاسير وشروحات وأمثلة وقصص وأدعية، وشرح مفصل لكل شعيرة وعبادة وفريضة؟
* * *
قيمة أي إنسان أو دولة أو مجتمع تكمن في حقيقة ما قدمته هذه الجهات، منفردة أو مجتمعة، للبشرية والعالم من خدمات جليلة، بحيث جعلت حياة «كل البشر» أطول، ومعيشتهم أكثر راحة، وسعادتهم أكثر ديمومة، وصحتهم أفضل، ومستقبلهم أجمل، من خلال الاكتشافات الجغرافية والطبية الدوائية وطرق العلاج وتكييف الهواء، وتوفير أقصى شروط السرعة والأمان في التنقل، وتوفير الغذاء لمليارات الأفواه، على مدار 365 يوماً في السنة، وغير ذلك. فأين يكمن دور من نصرُّ على تسميتهم بالعلماء وما هم بعلماء؟!
أحمد الصراف