عينات من الزمن التعيس

مررنا، خلال العشرين أو نصف القرن الماضي، في مرحلة هي الأغرب، بكل المقاييس. فقد تورّطت جهات عدة في الكثير من الأمور والتصرفات، التي كانت وبالاً علينا جميعاً، وستمر سنوات طويلة من العمل الجاد للتخلّص من آثار تلك المرحلة، من تصرفات وقرارات، وعشرات مراسيم وقرارات منح الجنسية لفئات كثيرة جداً، لم تستحق يوماً شرف الانتماء لهذا الوطن.

كما كانت الكويت، لعقود عدة، جنة خلق الثروات لمدّعي العفة والتديّن والصلاح والرغبة في الإصلاح، فعاثوا في البلد فساداً، وخربوا الذمم وأساؤوا للعقيدة، وجمعوا أموالاً طائلة لأنفسهم أولاً، وللصرف على الغريب والعجيب من الأهداف.

تعرّفت، من خلال متابعاتي وعملي المصرفي، على عدد من هؤلاء الذين نجحوا في الضحك على عشرات آلاف السذّج، وادّعاء معرفة ما لا يعرفه غيرهم من طرق علاج غير تقليدية، وحرصهم على إطالة اللحى وتقصير الثياب، والإكثار من البسملة والحوقلة، وحمل السبحة، وغيرها. ولد أحد هؤلاء في الكويت لأم كويتية، وتم تجنيسه تالياً على بند «الأعمال الجليلة»، وغالباً بدعم من جماعته. عرف منذ اليوم الأول أن «درب السنع» لا يثري، والراتب لا يغني، فامتهن الرقية والعلاج بالقرآن، وشاء سوء حظه أن يُتوفّى مواطن، مريض نفسياً، تحت يده، في محاولة يائسة لإجبار «الجنّي» على الخروج منه. نال حكماً بالسجن، ولكن تم العفو عنه، وأيضاً بمساعدة من «ربعه» المتنفذين. قرّر بعدها أن يمتهن مهنة رجل الدين، بالرغم من أن كل دراسته لا علاقة لها بالمهنة، وهذه من مثالب الإدارة الحكومية، حيث أصبح داعية معروفاً وشيخ دين، ويعمل تحت مظلة جمعيات خيرية، ويتقاسم معها نسبة «القائمين عليها» المجزية، وبلغ كل هذه الشهرة بعد أن قامت في مرحلة مظلمة قناة، دار لغط كثير حولها، بتبنيه وخلق «نجم ديني» منه، وبعدها سعت جهات عدة، تُسمّى خيرية، للاستعانة بشهرته في جمع التبرعات، ومن السذاجة الاعتقاد للحظة بأن كل الملايين التي نجح في جمعها، على مدى ثلاثين عاماً، ذهبت للغرض المعلن، فهو لم يكن غبياً، والمال السائب، الذي لا رقابة عليه، يغري بمد الأيادي وحتى الأرجل له.

انخرط، أثناء حراك الربيع العربي، مع ضمائر الأمة، وأسهم في جمع الدعم المالي والعسكري للمقاتلين في سوريا، وانجرف مع التيار، وصدرت منه إساءات بحق وزير الداخلية، حينها، وتجرّأ أكثر وأكثر، فتقرر سحب الجنسية منه، فلجأ لدولة خليجية، ثم لتركيا، حيث ساعدته استثماراته فيها، وفي البوسنة، في التمتع بحياته.

تدخّل الحظ للمرة العاشرة لمصلحته، وبتدخّل من جماعته، أعيدت الجنسية له، وعاد إلى لعبته نفسها في جمع التبرعات، وقام أخيراً، وعبر مختلف الأجهزة التي تساعده، من خلال عمل مؤسسي واسع، وجيش صغير من المعاونين، بأداء العمرة أو الحج عن غير القادر على ذلك، مقابل مبالغ مالية مجزية.

بالرغم من انشغال صاحبنا التام، وانغماسه في أعماله «الخيرية»، فإن لديه وقتاً للقيام بعمله الحكومي، مقابل راتب مجزٍ، ولا أحد يعلم كيف يستطيع المواءمة بين جمع التبرعات عن طريق مختلف الجمعيات، والعمل معالجاً، وخطيباً، وإماماً، وعضو هيئة تدريس، ومدير دعوة، ومدرباً ومجنداً للدعاة، وخبيراً أسرياً، وكاتباً صحافياً، ومشرفاً على مراكز هداية في أكثر من دولة.

هذا «الحضيض» مجرّد عينة، ومثلها الكثير.


أحمد الصراف

الارشيف

Back to Top