تجاهل الأعمال اليهودية المنصفة

قائمة «المكررات غير المطبقات»، أي الأمور التي نكرر قولها وكتابتها، ولا نهتم بتطبيقها، ومنها مقولة «اعرف عدوك»، فلا أحد تقريباً يعرف شيئاً عن إسرائيل، وخاصة بين الفلسطينيين، إلا ما ندر، وهؤلاء يفضلون البقاء في بروجهم التنكية، بحجة أن الأمة لا تقرأ.
هناك مجموعة من الكتب القيمة جداً، التي سبق أن وضعها، على مدى نصف القرن الماضي، وقبلها، تتعلق بالصراع العربي، أو الفلسطيني – الإسرائيلي، ومنها كتاب «الحائط الحديدي»، للمؤرخ الإسرائيلي «آفي شلايم avi shlaim»، وعنوانه عنوان مقال نُشر في الصحافة الروسية عام 1923 كتبه زيف جابوتنسكي، اليهودي الروسي، وأحد قياديي الحركة الصهيونية، توقع فيه أن الفلسطينيين لن يوافقوا على وجود أغلبية يهودية في فلسطين، وأن الاستعمار الصهيوني يجب إما أن يتوقف، وإما أن يستمر، بغض النظر عن رأي سكان البلاد الأصليين، وتحت حماية قوة مستقلة عنهم، أو يبقون خلف جدار حديدي لا يمكن للفلسطينيين اختراقه. وإن الحل الوحيد لإقامة الدولة اليهودية في أرض إسرائيل هو أن يقوم اليهود أولاً بإقامة دولتهم القوية، وهذا من شأنه أن يدفع العرب في نهاية المطاف إلى التخلي عن «قادتهم المتطرفين»، الذين شعارهم «أبداً!»، وتمرير القيادة إلى «الجماعات المعتدلة»، التي ستقدم لليهود تنازلات متبادلة، وحينئذ فقط، سوف يجلسون ويتحدثون عن السلام.

فكرة الجدار الحديدي، في دراسة آفي شلايم، للسياسة الإسرائيلية تجاه العالم العربي منذ عام 1948؛ تتركز على أن هناك عنصراً ثانوياً ذا صلة، وهو الصراع الدائم الذي يميزه شلايم، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أكسفورد، بين المتشددين الناشطين، وبين المعتدلين ضمن نخبة متخذي القرار في إسرائيل. ويمثل المتشددان ديفيد بن غوريون وغولدا مائير، اللذان كانا يشتركان في فرضية الجدار الحديدي التي طرحها جابوتنسكي، في حين لم يشترك المعتدلون، مثل موشيه شاريت أو ليفي إشكول، رئيس الوزراء الثاني والثالث لإسرائيل على التوالي، في هذه الفرضية. ومهما يكن من أمر، فإن شلايم، أحد أبرز المؤرخين «الجدد»، الذين يدرسون تاريخ إسرائيل والصهيونية والشرق الأوسط، يتفق مع جوهر تحليل جابوتنسكي: فما كان لإسرائيل أن تنهض أو تستمر في الوجود، أو حتى تنتزع السلام من جيرانها من دون خدمات ذلك الجدار الحديدي. وشلايم لا يميل للمتطرفين اليهود، بل إنه، في سياق كتابه السهل القراءة والمدروس بعناية، يشير مراراً وتكراراً إلى أنه يفضل إلى حد بعيد المظهر الأكثر إنسانية وأخلاقية وممارسة من أمثال موشيه شاريت، وثاني رئيس وزراء لها (1953–1955) الذي كان يحاول دوماً، لكن دون جدوى، جر العرب إلى المفاوضات ومحاولة حل المشاكل الإسرائيلية – العربية من خلال الدبلوماسية. وكان عام 1956 نقطة تحول في النزاع بين الطرفين، عندما نجح بن غوريون في إقالة شاريت، ووضع بصمة التشدد على السلوك السياسي العسكري الإسرائيلي.

إن حجة شلايم الحقيقية لم تكن في الواقع مع جابوتنسكي أو بن غوريون، اللذين لم يكن بوسعهما أن يفكرا أو يفعلا غير ذلك، إذا أرادا إقامة دولة يهودية في وسط جوار شديد العدائية، بل مع خلفائهما، غولدا مائير، ومناحيم بيغن، وإسحاق شامير، وبنيامين نتانياهو، الذين، بعد أن ورثوا إسرائيل مستقرة وآمنة، مليئة بالأسلحة التقليدية والذرية، فشلوا في الانتقال إلى المرحلة الثانية المنصوص عليها في فلسفة الجدار الحديدي لجابوتنسكي، مرحلة المفاوضات والسلام، حتى بعد أن وافق العرب على وجود إسرائيل!

وعلى الرغم من أن شلايم أطلق في كتابه أوصافاً قاسية على القادة الإسرائيليين، فإن زعماء عرباً، مثل ناصر والأسد، لم يلقوا منه إلا ضربات خفيفة على المعصم.

على الرغم من عيوب الكتاب، فإنه يستحق الترجمة من السلطة الفلسطينية، فهو أفضل وأشمل كتاب منصف للصراع بين عامي 1948 و1999 نُشر حتى الآن، ولا بد أن يكون في مكتبة كل من يهتم بطبيعة الصراع مع الصهاينة.


أحمد الصراف 

الارشيف

Back to Top