كيف كنا وكيف أصبحنا؟!
يقضي الفرد 8 ساعات من يومه في النوم، وما يماثلها في العمل، وما يبقى ينفقه، كما ينفق المال، في تناول طعامه والتنقل من نقطة لأخرى، وقضاء الوقت مع الأسرة والأصدقاء، والذهاب للمطاعم والمقاهي، ومشاهدة التلفزيون، ومتابعة الرياضة.. إلخ! لكن هناك استثناءات، فلكل منطقة اهتماماتها، ويصعب استخدام نفس أداة القياس على العالم أجمع، فللبيئة والتقاليد والأديان دورها وتأثيرها على أين يقضي البشر غالب وقتهم، خارج ساعات العمل والنوم.
في دراسة طريفة، وخطيرة جدا في الوقت نفسه، تبيّن تطور اهتمامات الشعوب الغربية، في المئة سنة الماضية، وحتى اليوم، والتي يمكن، إلى حد كبيرة اسقاطها على بقية شعوب العالم، وإن بدرجات ونسب متفاوتة.
فقبل مئة عام كانت العائلة مركز الاهتمام ونقطة الجذب الأكبر لدى غالبية البشر، ومعها كانوا يقضون جل أوقات فراغهم. وكانت المدرسة تأتي في المرتبة الثانية، ثم قضاء الوقت مع الأصدقاء، ورابعا مع الجيران، أو في دور العبادة والمقاهي، وأخيرا الالتقاء بزملاء العمل، ولم يكن هناك شيء اسمه إنترنت.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية تغيرت مراكز الاهتمام البشري، وأصبح للاصدقاء الحصة الأكبر من وقت الإنسان، على حساب العائلة، وجاءت بعدها في الأهمية؛ المدرسة، الجيران، البار، المعبد، زملاء العمل، ولا شيء للأونلاين، أو الإنترنت.
مع بداية ثمانينيات القرن الماضي طرأت تغيرات جديدة، مع بقاء الأصدقاء في المرتبة الأولى وبعدها العائلة، ثم زملاء العمل، فالمقهى، والمدرسة، والجيران، وتراجعت دور العبادة للمرتبة الأخيرة، وبدأ ظهور بعض الاهتمام بالإنترنت بنسبة 2 %.
مع حلول عام 2000 بقيت المراكز المتقدمة كما هي، مع ارتفاع نسبة وقت الإنترنت إلى 4 %، أي الضعف.
وخلال السنوات العشر التالية، أي مع عام 2011، ارتفع قضاء الوقت مع «الطارئ الجديد»، أو «الإنترنت» إلى المرتبة الثانية، بعد مرتبة الأصدقاء، بنسب متقاربة جدا، 23 % و 24 %، على التوالي، مقابل تراجع مرتبة الأسرة إلى 9 % فقط، ونسبة قضاء الوقت مع الجيران ودور العبادة أو الكنيسة إلى 4.5 %، لكل منهما.
ومع عام 2020 حدثت تغيرات خطيرة كثيرة، عما كانت عليه قبل 85 عاما، فقد احتل الأونلاين المرتبة الأولى، كرفيق وصديق ومصدر للمعلومات، حيث المعرفة والتسلية، كما أصبح عامل وفر مادي في الوقت والمال، حيث أصبح التسوق عن طريقة أكثر شيوعا وسهلا، وارخص من التسوق العادي. كما أصبح بالإمكان قراءة الكتب والمجلات الدورية والصحف اليومية والاستماع لأفضل الأغاني مجانا، مع خاصية دفع مبالغ زهيدة نسبيا لمشاهدة الأفلام والمباريات والمناسبات والاحتفالات، بعد أن أصبحت جميعها تأتي لتستقر على الركبتين، من دون أن يغادر المستخدم بيته. نتيجة لكل ذلك ارتفعت نسبة قضاء الوقت مع الإنترنت إلى 55 % مقابل 16 % من الوقت للأصدقاء، وأصبح الوقت المخصص للأمور الأخرى قليلا جدا.
ومع عام 2024، وبعد 100 سنة، ارتفعت النسبة إلى 61 % للأونلاين، و13 % فقط للأصدقاء، و 8.5 % لزملاء العمل، و5 % للمطعم والمقهى وأقل من ذلك من وقت للعائلة، وهذه الأخيرة هي الأخطر في المؤشر، خاصة مع تراجع دور أماكن العبادة والجيران والكلية لما دون نسبة العائلة. ولا يبدو أن بإمكان أية جهة الحد من تمدد الوقت الذي أصبحت الغالبية تقضيه مع الإنترنت، بخلاف قلة قليلة من الأسر، فجهاز اللابتوب، والأهم والأخطر منه الهاتف النقال، أصبح هو الرفيق والصديق، وكاتم الأسرار، ووسيلة التواصل، ومصدر الأخبار، وحافظ المعلومات الشخصية والمالية، وفي حالات كثيرة مصدر الرزق الأساسي، فأين المفر؟
أحمد الصراف